كارل روجرز: رائد العلاج المتمركز حول الشخص ومفهوم الذات
تستعرض هذه المقالة سيرة كارل روجرز، رائد العلاج المتمركز حول الشخص، من نشأته الريفية إلى تطويره فلسفة القبول غير المشروط والتعاطف، وتأثيره الواسع على العلاج النفسي والتعليم وحركات حقوق الإنسان، وكيف ألهمت أفكاره ملايين البشر، وتوضح اختلاف رؤيته عن التحليل النفسي التقليدي ودعوته إلى تمكين الأفراد من اكتشاف قوتهم الداخلية.
منذ أن كان كارل روجرز طفلاً في مزرعة هادئة بولاية إيلينوي، كانت لديه عادة مراقبة ما حوله بعين تأملية. كانت الطبيعة وجمالياتها تعطيه إحساساً بأن الحياة لا تقتصر على ما يراه الآخرون، وإنما تحمل وراءها أسراراً عميقة. في شبابه انتقل إلى جامعة ويسكونسن، ومن ثم إلى معهد اللاهوت، ليبدأ رحلة البحث عن معنى وجود الإنسان ومكانه في هذا الكون. ومن هنا بدأت فكرة "الشخص" تصبح محور اهتمامه، بدلاً من الأفكار المجردة والنظم النظرية التي رافقت علم النفس في بداياته.
كان روجرز طيلة حياته شخصاً يرفض الجمود والسلطة. تعرض لانتقادات شديدة من المحللين النفسيين الذين تمسكوا بنموذج فرويد، لكنه بقي متمسكاً بالقيم الإنسانية التي تعلمها من والدته المتدينة وأبيه المزارع: الحرية، العفوية، والصدق مع الذات. انطلق روجرز من هذه الخلفية ليطور علاجاً يجمع بين العلم والفلسفة، بين الدقة والعاطفة. وفي الوقت الذي انشغل فيه العالم بالتفسيرات المرضية للسلوك الإنساني، كان هو يهتم بتفاعل الشخص مع ذاته وأحلامه.
في أربعينيات القرن العشرين خرج روجرز إلى العالم بمفهوم العلاج المتمركز حول الشخص، وتبدلت الموازين. لم يعد المعالج طبيباً يعرف كل شيء، بل أصبح مرشداً يهيئ البيئة الآمنة التي تسمح للشخص بأن يسمع صوته الداخلي. كانت هذه الثورة في العلاج تدعو لثلاثة عناصر أساسية: تقبل غير مشروط، تعاطف صادق، وصدق أصيل في العلاقة العلاجية. فالمعالج الذي يقدم تقبلاً غير مشروط لا يحكم على مريضه، بل يمنحه المجال ليعبر عن كل ما يخيفه وما يفرحه. والتعاطف هنا ليس مجرد شفقة، بل هو شعور عميق يشبه النظر إلى العالم من عيني الشخص الآخر. أما الصدق، فهو أن يكون المعالج متسقاً مع ذاته، لا يختبئ وراء قناع مهني أو لغة محايدة.
تأثر روجرز بفكرة الذات كما صاغها علماء مثل جيمس وديوي، لكنه قام بتطويرها من خلال مفهوم الصورة المثالية والصورة الواقعية للشخص. فالفجوة بين ما نريد أن نكونه وبين ما نشعر به هي مصدر معاناة الكثيرين. وفي جلساته كان يساعد مرضاه على ردم هذه الفجوة، فيوجههم للقبول بالذات، ومن ثم العمل على تطويرها دون خوف من النقد أو الفشل. كان يرى أن الإنسان يحمل بداخله نزعة فطرية نحو تحقيق ذاته، تماماً كما تسعى البذرة إلى أن تصبح شجرة. لكن هذه النزعة لا تزهر إلا في بيئة تتيح لها الضوء والماء والهواء.
ربما يكون التحدي الأكبر الذي طرحه روجرز هو تحوله من معالج إلى مفكر اجتماعي. فقد كان يؤمن بأن مبادئ العلاج المتمركز حول الشخص يمكن تطبيقها على التربية، والزواج، والسياسة، وحتى العلاقات الدولية. في كتابه "أن تصبح شخصاً" دعا لإحداث ثورة في طريقة تواصل البشر، لتصبح مبنية على الإصغاء والتفهم بدلاً من العنف وفرض السيطرة. لقد أصبحت فلسفته بمثابة دعوة للمجتمعات أن تعيد النظر في قيمها، وأن تضع الإنسان في المركز، لا المؤسسة أو النظام.
ما الذي يجعل تجربة كارل روجرز ملهمة في مجال الصحة النفسية اليوم؟ إننا نعيش في زمن يتزايد فيه القلق والشعور بالاغتراب، ويبحث فيه الناس عن معنى لحياتهم. إن دعوته للصدق مع الذات، والرحمة مع الآخرين، والتعبير الحر عن المشاعر، تبدو كأنها رسائل موجهة لعصر وسائل التواصل الاجتماعي حيث تكثر الأقنعة. كما أن احترامه لخبرة الفرد يجعلنا نعيد تقييم الطرق التي نتعامل بها مع أبنائنا وطلابنا وموظفينا.
إذا أردت أن تستلهم من روجرز درساً واحداً، فليكن الاعتقاد بأنك تملك القدرة على تغيير ذاتك، وأن دور الآخرين هو دعمك لا قيادتك. الإنسان كائن قابل للنمو، ولا توجد قصة مكتملة إلا عند نهايتها. وفي هذا المعنى، يقترب روجرز من فلاسفة مثل سبينوزا وهايدغر، الذين نظروا إلى الحياة كمشروع دائم التجدد. إنه يدعونا لنمارس شجاعة الصراحة، وأن نتحمل تبعاتها، لأن الراحة الحقيقية تأتي بعد مواجهة الحقيقة.
في نهاية المطاف، يبقى كارل روجرز شخصية محورية في تاريخ علم النفس، ليس لأنه وضع نظرية جديدة فحسب، بل لأنه أعاد الإنسانية إلى المعادلة العلاجية. لقد أعطى الناس صوتاً حين كان صوت الطبيب طاغياً، وفتح المجال أمام آلاف المعالجين ليكونوا أكثر تواضعاً وإنسانية. وما أحوجنا اليوم إلى هذه الروح في زمن تعلو فيه أصوات التكنولوجيا والاستهلاك على صوت القلب.






