الحوسبة المحيطة: نحو ذكاء غير مرئي ينسجم مع حياتنا اليومية
يستعرض مفهوم الحوسبة المحيطة أو الذكاء غير المرئي، حيث تندمج أجهزة الاستشعار والذكاء الاصطناعي والشبكات في البيئة لتوفير خدمات استباقية. يشرح التطبيقات في المنازل والمدن الذكية والتحديات التقنية والأخلاقية لضمان الخصوصية وكفاءة الطاقة ويتناول تأثيرها الاجتماعي.

منذ عدة عقود كانت أجهزة الكمبيوتر تُعد آلات ضخمة ومعزولة. مع تطور التكنولوجيا الرقمية أصبح الحاسوب جزءاً من كل جهاز تقريباً، لكننا ما زلنا نعتبره أداة منفصلة نستدعيها عند الحاجة. في السنوات الأخيرة ظهرت رؤية مختلفة تسمى "الحوسبة المحيطة" حيث يندمج الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستشعار والشبكات في البيئة المحيطة لتقديم خدمات متواصلة ومتخفية. الهدف هو أن تختفي التكنولوجيا في الخلفية لتصبح البيئة نفسها ذكية تستجيب لاحتياجاتنا دون أن نضطر لطلب ذلك صراحة.
تتكون الحوسبة المحيطة من عناصر عديدة: أجهزة استشعار لالتقاط بيانات عن الموقع والحركة ودرجة الحرارة؛ خوارزميات تعلم آلي لتحليل الأنماط والتنبؤ بالاحتياجات؛ وشبكات اتصال لنقل المعلومات بين الأجهزة الساكنة والمتحركة. هذه العناصر موجودة بالفعل في المنازل الذكية والساعات الذكية والسيارات المتصلة بالإنترنت. لكن الرؤية الشاملة تستهدف دمجها بطريقة تجعلها غير مرئية تقريباً للمستخدمين. فبدلاً من تشغيل تطبيق للتحكم في الإضاءة أو التدفئة، ستقوم أنظمة الحوسبة المحيطة بتحليل وجودنا وسلوكنا وتعديل البيئة تلقائياً.
التطبيقات الحالية والتحديات التقنية
في المنازل الذكية يقوم النظام بضبط الإضاءة والستائر والموسيقى وفقاً لروتين المستخدم. في المكاتب يمكن للتحكم في درجة الحرارة وتوزيع المساحات أن يعتمد على تحليلات للوقت الفعلي لحركة الموظفين. أما في المدن، فإن الحوسبة المحيطة تدعم أنظمة المواصلات الذكية التي تتوقع ازدحام الطرق وتعيد توجيه الحركة. هذه التطبيقات لا تعتمد فقط على جمع البيانات، بل على دمج مصادر مختلفة بشكل متزامن لاتخاذ قرارات آنية. الأمر يتطلب تصميم شبكات قادرة على معالجة البيانات محلياً (Edge Computing) لتقليل زمن الاستجابة وحماية الخصوصية.
من التحديات الرئيسية في تحقيق هذه الرؤية الحاجة إلى معايير مشتركة تضمن تشغيل الأجهزة من مختلف المصنعين بطريقة سلسة. كما أن إدارة الطاقة ضرورية، لأن وجود مستشعرات وأجهزة متصلة باستمرار يمكن أن يستهلك طاقة كبيرة. لذلك يجري تطوير بروتوكولات اتصال منخفضة الطاقة وتقنيات حوسبة فاعلة. يضاف إلى ذلك ضرورة حماية البيانات الشخصية؛ فجمع المعلومات عن حركة الأشخاص وعاداتهم يتطلب تطبيق تشفير قوي وسياسات شفافة تمنع إساءة الاستخدام.
التأثير الاجتماعي والأخلاقيات
تعد الحوسبة المحيطة وعداً بخلق بيئات أكثر راحة وكفاءة، لكنها تثير أيضاً أسئلة حول الخصوصية والسيطرة. إذا أصبحت أنظمة الذكاء غير المرئي تدير منازلنا ومكاتبنا، فمن يتحكم في الخوارزميات ومن يضمن عدم استخدامها لأغراض تجارية أو رقابية؟ يجب أن يتضمن التطوير معايير أخلاقية تسمح للمستخدمين بفهم كيفية استخدام بياناتهم وتحديد مستوى الأتمتة الذي يريدونه. كما أن الاعتماد الزائد على التقنية قد يقلل من مهارات البشر في القيام بالمهام اليدوية أو اتخاذ القرارات.
في الوقت نفسه يمكن للحوسبة المحيطة أن تقدم فوائد اجتماعية كبيرة: فهي تسهل على كبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة العيش باستقلالية أكبر عبر توفير مساعدات تلقائية مثل مراقبة الصحة والإخطار بحالات الطوارئ. كما يمكنها تحسين كفاءة الطاقة وتقليل الهدر في المدن والمصانع. من أجل تحقيق هذه الفوائد يجب إشراك صناع السياسات والمصممين والمستخدمين في حوار مفتوح لضمان أن التقنيات تستجيب لاحتياجات متنوعة ولا تحصر نفسها في الجانب الربحي فقط.
إن رحلة الحوسبة المحيطة ما زالت في بدايتها، لكنها تشكل انعطافاً جوهرياً في علاقة البشر بالتكنولوجيا. عوضاً عن التركيز على الأجهزة والشاشات، سيصبح التركيز على التجربة المحيطة القائمة على التفاعل الطبيعي. بمرور الوقت من المتوقع أن تتطور تقنيات الاستشعار والتعلم الآلي لتصبح أقل استهلاكاً للطاقة وأكثر دقة في فهم السياق، ما يتيح للأجهزة استباق احتياجات المستخدمين. ومع ذلك، يجب أن يصاحب هذا التقدم إطار تشريعي وأخلاقي يضمن حماية الخصوصية ويوفر خيارات واضحة للمستخدمين بشأن مستوى الدمج الذي يريدونه.
التحدي الأكبر يتمثل في إيجاد توازن بين الراحة والفائدة من جهة، والحرص على عدم بناء بيئة خفية تستنزف البيانات دون مراقبة. سوف تتطلب الحوسبة المحيطة تعاوناً بين الهندسة والعلوم الاجتماعية والقانون لضمان أن يكون هذا التحول في صالح المجتمع ككل. بوجود رؤية طويلة الأمد والتزام بالشفافية، يمكن للحوسبة المحيطة أن تتحول إلى أداة تمكين تدعم الصحة والرفاهية وتعزز الاستدامة في مدن المستقبل.