العبء العاطفي والصحة النفسية: معاناة الرجال بين الإنكار والمسؤولية
يستعرض هذا المقال الضغوط النفسية والعاطفية التي يعيشها الرجال في السعودية، ويحلل تأثير التوقعات الاجتماعية على صحتهم وكيف يمكن دعمهم.

على الرغم من أن الثقافة الشعبية تكرس صورة الرجل الصارم الذي لا يبكي ولا يشتكي، فإن الواقع النفسي لكثير من الرجال مختلف تماماً. في المجتمع السعودي كما في مجتمعات أخرى، يتربى الطفل الذكر على أن الرجولة تعني الكتمان والتجلد وعدم إظهار الضعف. لكن هذه التربية لا تلغي حقيقة أن الرجال بشر يمتلكون مشاعر ويعانون من ضغوط نفسية. تشير الإحصاءات الدولية إلى أن معدلات الانتحار وتعاطي المخدرات والكحول أعلى بكثير بين الرجال، بينما ترتفع معدلات القلق والاكتئاب وإضطراب ما بعد الصدمة لدى النساء. هذا لا يعني أن الرجال لا يعانون من القلق أو الاكتئاب؛ بل يعني أنهم غالباً ما يعانون بصمت أو يلجأون إلى مخدرات أو انخراط في العمل المفرط لتعويض النقص العاطفي.
العبء العاطفي هو مفهوم يشير إلى الطاقة النفسية التي يبذلها الفرد في إدارة مشاعر الآخرين والتفاعل معهم بشكل يدعمهم. عادة ما يتم الحديث عن العبء العاطفي الذي تتحمله النساء داخل الأسرة والمجتمع، لكن من النادر الحديث عن العبء العاطفي الذي يتحمله الرجال. فالرجل يُتوقع منه أن يكون حامي الأسرة ومصدر الأمان، وأن يتحمل مسئوليات اقتصادية واجتماعية جسيمة دون أن يشتكي. عندما يواجه الرجل مشاكل في العمل أو ضائقة مالية، فإنه غالباً ما يخفيها حتى عن أقرب الناس إليه لأنه يخشى أن يُوصم بالضعف. هذا التراكم للضغوط يقود إلى احتراق نفسي قد يظهر في صورة غضب أو عزلة أو انطواء.
وفوق هذا كله، يُتوقع من الرجل أن يلعب دور "الجبل" الذي لا يتأثر بالعواصف العاطفية لمن حوله. الزوجة قد تشكو، والأبناء قد يبكون، والأصدقاء قد ينهارون، والرجل مطالب دائماً بأن يبقى صلباً وعقلانياً. هذا الدور لا يولد من فراغ، بل ينبع من ثقافة ترى أن الرجل يجب أن يكون صامتاً ومتحكماً في عواطفه حتى لا يتم تفسير ضعفه كعار. لكن الأبحاث العلمية في مجال علم النفس تشير إلى أن كبت المشاعر يؤدي إلى زيادة في هرمونات التوتر وإلى ظهور أعراض جسدية مثل ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب. وبالتالي فإن التظاهر بالصلابة قد يكون له ثمن باهظ على صحة الرجل.
في السعودية، لا تزال هناك فجوة كبيرة في الوعي بالصحة النفسية عموماً، وما زالت العبارات من قبيل "الرجال لا يبكون" و"الصبر زين" تستخدم كعصا لتأديب العاطفة. ومع ذلك، بدأت بعض المبادرات المحلية تسلط الضوء على أهمية العلاج النفسي للرجال وعلى فكرة أن طلب المساعدة ليس عيباً. في مجتمع تشكل فيه التوقعات الاجتماعية والدينية الكثير من تفاصيل الحياة، يجب أن نعترف بأن الرجل يحتاج أيضاً إلى مساحة آمنة للتعبير عن مخاوفه من دون الحكم عليه. كما أن التفسير الديني للصبر والرضا لا يتعارض مع بذل الجهد للحصول على صحة نفسية أفضل؛ بل إن الإسلام يشجع على السعي للعلاج وعلى الاعتراف بالضعف أمام الله كجزء من التواضع.
الخطوة الأولى نحو تخفيف العبء العاطفي عن الرجال هي إتاحة الفرصة لهم للتحدث عن مشاعرهم من دون خوف من السخرية. يمكن للمدارس والجامعات أن تلعب دوراً مهماً في تعليم الذكور مهارات التعبير العاطفي وطلب الدعم. كما يجب على وسائل الإعلام أن تتوقف عن تعزيز الصورة النمطية للرجل الحديدي الذي لا يخطئ ولا يضعف. يجب أيضاً تشجيع الرجال على ممارسة الأنشطة التي تخفف من الضغط النفسي، مثل الرياضة والتأمل والفنون، وأن يدركوا أن الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية.
كذلك فإن السياسات العامة يمكن أن تلعب دوراً في تعزيز الصحة النفسية للرجال. توفير مراكز مجانية أو بأسعار معقولة للعلاج النفسي، وتوعية المجتمع بالعلامات المبكرة للضغوط، وتشجيع أرباب العمل على تقديم بيئات عمل داعمة ومتوازنة، كلها خطوات مهمة. عندما يشعر الرجل أنه ليس مجبراً على حمل العالم على كتفيه وحده، وأنه يستطيع مشاركة مخاوفه ومسؤولياته مع شريكته أو عائلته أو معالج نفسي، فإن العلاقات تصبح أكثر صحة وتوازناً.
في النهاية، يجب أن نتذكر أن الرجولة ليست سيفاً مسلطاً على الأعناق، وأن الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، لا يمكنه أن يعيش حياة متوازنة من دون الاعتراف بحدوده النفسية والسعي للعناية بها. تحرير الرجل من عبء التوقعات الزائفة ومن عبء الصمت يفتح المجال لنوع من الإنصاف في العلاقة بين الجنسين، حيث يعترف كل طرف بمشاعر الآخر ويتشارك معه عبء الحياة. هذا هو السبيل لبناء مجتمع لا يرى في الضعف وصمة، بل فرصة للنمو والاتحاد.