كارين هورناي: رائدة علم النفس الأنثوي وتحرير الذات

تروي هذه المقالة مسيرة كارين هورناي، عالمة النفس الألمانية التي تحدت خطاب فرويد وسلطت الضوء على دور الثقافة في تشكيل الأمراض النفسية. تشرح كيف صنفت الاحتياجات العصبية، ونقدت مفهوم حسد القضيب، وأسست جمعية ومجلة لتطوير التحليل النفسي، ودعت إلى اكتشاف الذات الحقيقية. يكشف المقال أن فهم الصحة النفسية يتطلب النظر إلى ظروف المجتمع والهوية الشخصية.

كارين هورناي: رائدة علم النفس الأنثوي وتحرير الذات
كارين هورناي رائدة علم النفس الأنثوي ومؤسسة نظرية الاحتياجات العصبية تنادي باكتشاف الذات الحقيقية بعيداً عن التحيزات الثقافية والصراعات الاجتماعية


ميلاد رؤية جديدة للصحة النفسية

في زمن كان فيه الخطاب النفسي محصوراً في تفسيرات فرويدية تقليدية تصور الإنسان أسيراً لدوافعه المكبوتة، ولدت كارين هورناي في برلين في بداية القرن العشرين تحمل رؤية مختلفة. بدلاً من النظر إلى النفس البشرية كموضوع للتحليل عبر عقد أوديب واندفاعات غريزية، رأت أن جذور المعاناة تكمن في العلاقات الاجتماعية والثقافية التي تشكل الفرد. نشأت هورناي في عائلة محافظة، لكنها تمردت على القوالب الجاهزة وانضمت إلى الجيل الأول من النساء اللواتي درسن الطب في جامعة فرايبورغ، مستعدة لتحطيم الأساطير التي تحكم العقل.

العقد العصبية وثورة على التفسير الفرويدي

أثارت كتابات هورناي ضجة بين زملائها لأنها جَرََدت الأعصاب من سحرها البوهيمي وقدمت تفسيراً اجتماعياً للحزن والاضطرابات. وضعت قائمة بعشر احتياجات عصبية رأتها كاستراتيجيات دفاع نفسية: الحاجة إلى الاستحسان، والرغبة في القوة، والسعي إلى الانسجام، والهوس بالاستقلال، والبحث الدائم عن المكانة، وغيرها من الرغبات التي تتشكل في الطفولة وتصبح أنماطاً ثابتة. كانت تعتقد أن الفرد يبني هذه الاحتياجات لحماية نفسه من مشاعر القلق والعجز، وأن المجتمع هو الذي يحدد أي هذه الاحتياجات يزدهر وأيها يتحول إلى عبء. بذلك حوّلت النقاش من الأعضاء التناسلية إلى البنية الاجتماعية والثقافية.

عندما واجهت نظرية فرويد حول “حسد القضيب”، رفضتها باعتبارها انعكاساً لتحيزات ثقافية وليست حقيقة بيولوجية. وأشارت إلى أن الرجال هم من يشعرون بالحسد؛ فهم يغبطون المرأة على قدرتها على الحمل والولادة وتنشئة الأجيال، وأسمت ذلك “حسد الرحم”. كما أكدت أن الصراعات ليست حرباً بين أجزاء النفس، بل هي صراع بين الشخص وصورة الذات المثالية التي يبنيها تحت ضغط المجتمع.

الثقافة والذات الحقيقية

كانت هورناي ترى أن القوة الحقيقية للعلاج النفسي تكمن في كشف هذه الصورة المثالية الزائفة، وإعادة توجيه الفرد نحو ذاته الحقيقية. وشبهت الأمر بخلع قناع تم لبسه لسنوات؛ قد يبدو هذا القناع جميلا، لكنه يخنق التنفس ويعزلنا عن الآخرين. بالنسبة لها، الشفاء يعني مصالحة بين الذات المثالية والذات الواقعية، وتحويل الطاقة من محاولة إرضاء الآخرين إلى بناء حياة تتناغم مع قيمنا الأصيلة. هذا التصور كان تقدماً جريئاً في فهم الصحة العقلية؛ فهو يحمّل الثقافة مسؤولية ما ينسب عادة إلى البيولوجيا، ويعيد للإنسان القدرة على إعادة تشكيل مصيره.

النقد البناء وإرثها المهني

لم يكن إسهامها فكرياً فقط، بل كانت رائدة في تنظيم المؤسسات التي فتحت أبواباً لأجيال من المعالجين. شاركت في تأسيس جمعية لتطوير التحليل النفسي في نيويورك وأسست مجلة متخصصة في هذا المجال. كانت تكتب وتدرس، لكنها كانت أيضاً تعالج المرضى وتسعى لتحويل نظرياتها إلى ممارسة حية. أبرز ما ميّزها هو تشجيعها للناس على أن يصبحوا خبراء بحياتهم؛ فالعلاج بالنسبة لها ليس نصيحة من فوق بقدر ما هو تعاون يدفع الشخص للنظر إلى ذاته بصدق. حتى عندما طردت من بعض الجمعيات بسبب آرائها الناقدة، لم تتراجع، بل أنشأت مؤسسات جديدة تمثّل رؤيتها للانفتاح والحرية الفكرية.

بين النقد والتجديد: دروس معاصرة

يرى البعض في نقدها لفرويد ثورة نسوية، لكنها كانت أكثر من ذلك، كانت دعوة لإعادة التفكير في كل ما نعتبره مسلّماً. فهي تعلمنا أن نظرياتنا ليست حيادية، وأنها تعكس صورة ثقافتنا ومعتقداتنا. وعندما تتغير الظروف، يجب أن يتغير فهمنا للنفس. في وقت تتصاعد فيه الضغوط الاجتماعية ووسائل التواصل تؤجج حاجتنا إلى القبول، يذكّرنا تحليل هورناي أن الشعور بالأمان لا يأتي من متابعة الآخرين وإنما من معرفة قيمتنا الذاتية. كما تقدم لنا قائمة احتياجاتها العصبية أداة عملية لاكتشاف ما إذا كنا نعيش وفق مخاوفنا أم وفق حريتنا.

المرأة التي غيّرت موازين التحليل النفسي

في نهاية المطاف، تركت كارين هورناي إرثاً يتجاوز تاريخ حياتها. فقد فتحت الباب أمام علم نفس أنثوي يرفض التفسيرات الأحادية، ويسعى إلى فهم الإنسان في سياق ثقافته وعلاقاته. أن تكون وفياً لإرثها يعني أن تكون مستعداً لطرح الأسئلة الصعبة، وأن تتحَىى النظريات السائدة، وأن تبحث باستمرار عن الذات الحقيقية المختبئة خلف أقنعة الخوف والتوقعات. إنها تذكّرنا بأن الاضطراب ليس قدراً محتوماً، بل قصة نكتبها ويمكننا تعديل مسارها عندما نمتلك الشجاعة للنظر إلى داخلنا.