نظرية بياجيه للنمو المعرفي: رحلة عبر مراحل تشكل العقل

استكشاف نظرية جان بياجيه التي ترسم ملامح نمو الطفل من المهد إلى المراهقة، وتشرح كيف يتفاعل العقل بين الاستيعاب والتكيف عبر أربع مراحل متتالية.

نظرية بياجيه للنمو المعرفي: رحلة عبر مراحل تشكل العقل
مراحل النمو المعرفي عند الأطفال وفق نظرية بياجيه والصحة النفسية


في كتاباته عن النفس البشرية كان جان بياجيه يشبه العالم الذي يقف على حافة نهر ويراقب تياراً لا يتوقف من الأفكار والأحاسيس. لم يكن هدفه أن يصنف هذه التيارات أو يروضها، بل أن يفهم حركة الماء والعلاقة العميقة بين النبع والأمواج. في عشرينيات القرن العشرين بدأ أبحاثه على الأطفال ليكشف لغز كيف يصبح الصغير إنساناً يفكر ويستنتج. كانت ملاحظاته بسيطة: طفلة تحاول إخفاء لعبة خلف ظهرها ثم تندهش عندما تلاحظ أن اللعبة ما زالت موجودة؛ طفل يستمتع بإعادة رمي الكرة، لا لأن اللعبة جديدة بل لأن تكرار الفعل يمنحه الشعور بالسيطرة. من هذه المشاهد اليومية صاغ نظريته عن النمو المعرفي.

يقول بياجيه إن الذكاء ليس شيئاً يولد مكتملًا ثم ينمو في الحجم، بل هو عملية بناء مستمرة. هذا البناء يعتمد على توازن بين عمليتين: الاستيعاب، أي إدخال خبرة جديدة في مخطط عقلي موجود؛ والتكيف، وهو تعديل المخطط نفسه ليناسب الخبرة. هذا التوازن الدائم بين ما نعرفه وما نتعلمه يشبه الرقص بين حافظ للموسيقى وعازف يرتجل، والموسيقى التي تنتج هي وعي الطفل بالعالم المحيط.

المرحلة الأولى في رحلته تسمى المرحلة الحسية الحركية وتمتد من الولادة حتى عمر عامين. في هذه الفترة يعتمد الطفل على الحس والحركة لفهم العالم: يتعلم أن الشيء يبقى موجوداً حتى لو اختفى عن عينه، ويكتشف أن بوسعه إحداث تغيرات بتكرار فعل معين. هذا الاكتشاف البسيط لبقاء الكائنات، والمعروف ب"ثبات الشيء"، يعد حجر الأساس لكل تفكير لاحق؛ فمن دونه يبقى العالم مجرد صور عابرة.

مع نهاية العام الثاني يدخل الطفل مرحلة ما قبل العمليات التي تستمر حتى السابعة. هنا تظهر اللغة وتزدهر القدرة على اللعب الرمزي: يستطيع الطفل أن يجعل قطعة خشب سفينة أو منزلاً ويخلق أصدقاء خياليين. لكنه لا يفهم بعد المنطق المادي ولا يستطيع رؤية الأمور من وجهة نظر الآخرين. التفكير في هذه المرحلة أناني وحدسي؛ الطفل يربط بين الأحداث على أساس تشابه سطحي وقد يعتقد أن الشمس تغرب لأنه يذهب إلى النوم. إن رقة هذه المرحلة تجعلها مسرحاً مثالياً لتشكل عقد نفسية إذا لم يلق الطفل الرعاية والتفسير.

بين السابعة والحادية عشرة تظهر مرحلة العمليات المحسوسة، ويبدأ العقل الصغير بالتعامل مع الواقع بمنطق بسيط. يستطيع الطفل الآن أن يفهم فكرة المحافظة على الكمية، وأن يدرك أن الماء يظل نفسه مهما تغيّر شكل الوعاء. يتعلم تصنيف الأشياء، وفهم العلاقات السببية، ويرى العالم من زوايا متعددة. إلا أن تفكيره ما زال مرتبطاً بما هو ملموس؛ فالرموز المجردة والمعاني الوجودية لا تزال خارج متناوله. إن إهمال هذه المرحلة قد يؤدي إلى صعوبة في بناء مفاهيم علمية لاحقاً، لأن القدرة على التفكير المنطقي تنمو هنا كبذرة.

مع المراهقة يدخل الفرد مرحلة العمليات المجردة حيث يصبح قادراً على التفكير في الاحتمالات والنظريات، وحل المشكلات ذهنياً دون الحاجة لتطبيقات مادية. هنا يولد السؤال الفلسفي: "من أنا؟" ويبحث الشاب عن هوية وقيم ومعنى. وفقاً لبياجيه، هذه القدرة على التفكير المجرد هي أساس الإبداع العلمي والفني، لكن الوصول إليها ليس مضموناً. إنها تتطلب بيئة تغذي حب السؤال والتجريب وتشجع على الخطأ بقدر ما تشجع على النجاح.

رغم أن نظرية بياجيه تعرضت للانتقاد بسبب تعميمها وعمر المراحل، إلا أنها فتحت الباب لفهم الطفل ككائن يُعيد بناء نفسه، وليس مجرد وعاء يُصب فيه العلم. في سياق الصحة النفسية، تذكرنا هذه النظرية بأن كثيراً من اضطرابات البالغين تبدأ كإخفاقات في مراحل الطفولة؛ فالمخاوف والمعتقدات الجامدة قد تكون بقايا مرحلة حسية أو حدسية لم تكتمل. إن الاعتراف بمراحل النمو المعرفي يسمح لنا بإعادة النظر في تجاربنا المبكرة وفهم دوافعنا الحالية، وكأننا نستعيد خريطة عقلية ضاعت تفاصيلها في زحمة الحياة. في هذا الإدراك يكمن مفتاح توازن أعمق بين العقل والعاطفة، وبين ما نستوعبه وما نتكيف معه.