كمية الغذاء أم مستوى ومدة ممارسة الرياضة: من يحفز السمنة حقًا؟

هل الرياضة وحدها تكفي لمكافحة السمنة؟ أحدث الأبحاث تكشف أن النظام الغذائي هو المحرك الأكبر للوزن، وتوضح كيف يمكن للسياسات الغذائية والتغييرات الفردية أن تحدث فرقًا حقيقيًا.

كمية الغذاء أم مستوى ومدة ممارسة الرياضة: من يحفز السمنة حقًا؟
الرياضة مهمة، لكن النظام الغذائي هو مفتاح الوزن الصحي


على مدى سنوات، ظل النقاش محتدمًا بين المختصين في مجالات التغذية والرياضة حول السؤال الجوهري: أيهما الأكثر تأثيرًا في تحفيز السمنة أو الوقاية منها – ما نأكله أم مقدار ما نتحرك؟ لعقود طويلة، سيطرت المعادلة التقليدية السعرات الداخلة مقابل السعرات الخارجة (Calories in vs. calories out) على النظام الصحي، فاعتُبر أن زيادة النشاط البدني كافية لتعويض أي فائض في السعرات الحرارية. لكن، ومع تراكم الأدلة العلمية الحديثة، بدأت الصورة تتغير؛ إذ تشيرالأبحاث المنشوره والمحكمة في مجلات عالمية إلى أن جودة الغذاء وكميته قد تلعب دورًا أعمق وأقوى في مسار السمنة من مجرد عدد ساعات التمرين.

لماذا لم تعد معادلة السعرات كافية لفهم السمنة

تاريخيًا، ارتكزت معظم استراتيجيات مكافحة السمنة على مفهوم بسيط لكنه مضلل في كثير من الأحيان: موازنة السعرات الحرارية المستهلكة من الطعام مع السعرات المحروقة عبر النشاط البدني. هذه المعادلة، المعروفة باسم Calories In vs. Calories Out، جعلت من التمارين الرياضية محورًا أساسيًا في برامج إنقاص الوزن، وأُنشئت حولها حملات توعوية ومبادرات وطنية.

إلا أن الأبحاث الحديثة بدأت تكشف تعقيدًا أكبر في العلاقة بين الغذاء، النشاط البدني، والوزن. فقد أظهرت دراسات عدة أن تأثير النشاط البدني على الوزن ليس خطيًا كما كان يُعتقد؛ إذ يميل الجسم إلى التكيف مع زيادة الحركة عبر خفض الإنفاق الطاقي في وظائف أخرى، مثل الجهاز المناعي والنشاط الهرموني، وهي الظاهرة التي يصفها الباحثون بنموذج Constrained Total Energy Expenditure.

هذا الفهم الجديد يسلط الضوء على أن تحسين جودة الغذاء وكميته قد يكون العامل الأكثر تأثيرًا في ضبط الوزن والوقاية من السمنة، في حين يبقى النشاط البدني ضروريًا لصحة القلب والأوعية، والحفاظ على الكتلة العضلية، وتعزيز الصحة النفسية، لكنه قد لا يكون كافيًا وحده لتحقيق أهداف فقدان الوزن إذا كان النظام الغذائي غير متوازن.

دراسة حديثة تفكك العلاقة بين الغذاء والرياضة

الدراسة المنشورة في Proceedings of the National Academy of Sciences اعتمدت على تحليل بيانات واسعة النطاق من عينات سكانية متنوعة (من 6 دول متفرقة)، لبحث العلاقة بين النظام الغذائي، النشاط البدني، ومعدلات السمنة. أظهرت النتائج بوضوح أن الفارق الأبرز بين المجتمعات ذات معدلات السمنة العالية والمنخفضة كان مرتبطًا بالنظام الغذائي، لا بمستويات النشاط البدني.

الأشخاص الذين يتبعون أنماطًا غذائية عالية السعرات وفقيرة بالقيمة الغذائية – مثل الأطعمة المعالجة، الغنية بالدهون المشبعة والسكريات المضافة – كانوا أكثر عرضة للإصابة بالسمنة، حتى عند ممارستهم نشاطًا بدنيًا منتظمًا. على النقيض، المجتمعات التي تتبنى أنماطًا غذائية متوازنة غنية بالخضروات، الحبوب الكاملة، والبروتينات الصحية، أظهرت معدلات أقل بكثير من السمنة، حتى مع مستويات نشاط بدني معتدلة.

هذا لا يلغي أهمية الرياضة، لكنها بحسب النتائج، ليست العامل الحاسم في السيطرة على الوزن إذا كان النظام الغذائي يفتقر إلى الجودة. وكما توضح الباحثة المشاركة في الدراسة، فإن الرياضة تظل مهمة لصحة الجسد والذهن، لكنها ليست العلاج السحري لمشكلة السمنة في ظل نظام غذائي غير صحي.

السعرات الحرارية المستهلكة أم المحروقة؟

لا شك أن النظام الغذائي والرياضة عنصران أساسيان للصحة العامة والرفاهية، لكن عندما يتعلق الأمر بالتحكم في الوزن، هل أحدهما أهم من الآخر؟

سعت الدكتورة ماكغروسكي وزملاؤها للإجابة على هذا السؤال، من خلال مقارنة بيانات معدل حرق السعرات الحرارية اليومية، ونسبة الدهون في الجسم، ومؤشر كتلة الجسم (BMI) لأكثر من أربعة آلاف شخص يعيشون في ست دول. شملت العينة أفراداً يعملون في الزراعة أو يعيشون على الصيد وجمع الثمار بنشاط بدني عالٍ، وآخرين في دول صناعية يتميز نمط حياتهم بقلة الحركة.

لخص الباحثون إلى أن سكان الدول الصناعية يميلون إلى امتلاك أوزان أكبر، ومؤشرات كتلة جسم أعلى، ونسب دهون أعلى مقارنةً بغيرهم. لكن بعد ضبط النتائج وفق حجم الجسم، تبين أنهم يحرقون يوميًا عدداً أقل بقليل فقط من السعرات مقارنةً بسكان المناطق الأقل تطوراً، على الرغم من أن نشاطهم البدني أقل بكثير.

وتوضح ماكغروسكي: "لم نرَ فروقًا كبيرة في إجمالي الإنفاق الطاقي (Energy Expenditure) بين المجموعات السكانية، لكننا لاحظنا زيادة في نسبة الدهون". وتضيف: "إذا لم يكن هناك تغيير كبير في عدد السعرات التي نحرقها، فلا بد أن التغيير يحدث في عدد السعرات التي نتناولها". بمعنى آخر: قد يكون سبب ارتفاع معدلات السمنة في بعض البلدان ليس نقص حرق السعرات الحرارية، بل الإفراط في استهلاكها.

لماذا للنظام الغذائي تأثير أكبر على الوزن؟

رغم أن الدراسة تشير إلى أن النظام الغذائي هو المحرك الأكثر تأثيرا في السمنة، إلا أن الباحثين ما زالوا يحاولون فهم الأسباب الدقيقة وراء ذلك. تقول ماكغروسكي إن أحد التفسيرات المحتملة يرتبط بالقدرة الطبيعية للجسم على تنظيم استخدام الطاقة.

يوضح البروفيسور كومار: "حتى عندما يكون الأشخاص نشطين للغاية، فإن أجسامهم تصبح أكثر كفاءة مع الوقت". ويضيف: "الجسم يتكيف تدريجيا مع زيادة النشاط البدني، فيجد طرقًا لاستهلاك طاقة أقل، مما يعني أن الأشخاص الذين يزيدون من نشاطهم باستمرار لا يحرقون بالضرورة سعرات حرارية أكثر وأكثر بشكل متناسب".

وعلى الجانب الآخر، تشير ماكغروسكي إلى أن الجسم قد يجد طرقًا إضافية لحرق السعرات الحرارية حتى في حال قلة الحركة اليومية. إضافة إلى ذلك، فإن الجسم الأكبر حجمًا يحتاج إلى طاقة أكبر لتشغيل وظائفه مقارنة بجسم أصغر حجمًا، وهو ما يفسر جزئيًا سبب تشابه معدلات حرق السعرات في المجتمعات التي تضم أفرادًا ذوي أوزان أكبر مع مجتمعات أخرى تضم أشخاصًا أصغر حجمًا لكن أكثر نشاطًا بدنيًا.

التحليل النقدي

من منظوري البحثي، ما يميز هذه الدراسة هو شموليتها واعتمادها على بيانات من بيئات وثقافات متعددة، مما يمنحها قوة تفسيرية واسعة. إلا أن النتائج، رغم وضوحها، تستدعي قراءة نقدية خاصة عند إسقاطها على السياق المحلي في المملكة ودول الخليج.

أول ما يلفت الانتباه هو أن التشابه في معدلات حرق السعرات بين البيئات النشطة والساكنة لا ينفي أهمية النشاط البدني، لكنه يكشف عن خلل جوهري في نمط الحياة الحديث، وهو التحول الغذائي السريع نحو أطعمة عالية السعرات وفقيرة بالقيمة الغذائية. في مجتمعاتنا، زاد الاعتماد على الوجبات السريعة والمشروبات المحلاة، مع تراجع استهلاك الأغذية التقليدية الغنية بالألياف والبروتينات الجيدة، وتضاعف استهلاك الأغذية المعالجة والفائقة المعالجة التي غالبًا ما تحتوي على نسب عالية من السكريات المضافة، والدهون غير الصحية، والمواد الحافظة، مما يزيد من الكثافة السعرية للطعام ويضعف قيمته الغذائية. هذه التغيرات في النظام الغذائي حدثت بوتيرة أسرع بكثير من قدرة الأفراد على التكيف الصحي معها.

ثانيًا، يغفل الكثيرون أن السمنة ليست مجرد معادلة حسابية للسعرات، بل هي ظاهرة معقدة تتداخل فيها العوامل البيئية، والسلوكية، والنفسية، وحتى الاجتماعية. على سبيل المثال، وفرة الطعام عالي السعرات، والتسويق المكثف له، والأنماط الاجتماعية التي تربط الاحتفاء والمناسبات بالأكل الدسم، كلها تعزز من استهلاك سعرات أكبر مما يحتاجه الجسم.

ثالثًا، تشير البيانات المحلية إلى أن برامج تعزيز النشاط البدني التي انتشرت في السنوات الأخيرة، رغم أهميتها، لم تؤدِّ إلى انخفاض ملموس في معدلات السمنة، وهو ما يتسق مع ما توصلت إليه الدراسة: النشاط البدني وحده لا يكفي إذا لم يصاحبه تحول حقيقي في جودة وكميات الغذاء المستهلك.

من هنا، يصبح التحدي أمام السياسات الصحية في المنطقة ليس فقط زيادة وعي الناس بأهمية الرياضة، بل إعادة صياغة البيئة الغذائية لتكون داعمة لخيار صحي، من خلال تشريعات، وحملات توعوية، وتغيير في أنماط الإنتاج والتسويق الغذائي.

العمل على الوقاية من السمنة

الرسالة الأساسية هنا ليست أن الرياضة بلا قيمة، بل على العكس تمامًا؛ فالرياضة ترتبط بوضوح بمجموعة واسعة من الفوائد الصحية الجسدية والنفسية. ويصفها الباحث بيترسن بأنها "أقوى تدخل لإطالة العمر في الطب – أقوى من أي دواء أو حبة أو حقنة يمكن أن نقدمها".

لكن عندما يتعلق الأمر بإدارة الوزن، تشير دراسة ماكغروسكي وأبحاث أخرى إلى أن التركيز يجب أن يكون على كمية السعرات التي نتناولها أكثر من تلك التي نحرقها. وكما يوضح البروفيسور كومار: "إذا لم يكن النظام الغذائي ملائمًا لفقدان الوزن، فلن تكون هناك أي خطة نشاط بدني قادرة على تجاوز ذلك".

ولتحسين النظام الغذائي، يوصي الخبراء عادةً بتناول مزيج من الفواكه والخضروات الطازجة، والحبوب الكاملة، والمكسرات، والبقوليات، ومصادر البروتين الخالية من الدهون، مع تقليل استهلاك الأغذية المعالجة والفائقة المعالجة. وتشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يستهلكون كميات كبيرة من الأغذية الفائقة المعالجة يميلون إلى الإفراط في الأكل واكتساب الوزن.

ومع ذلك، لا ينبغي أن يقع عبء هذه التغييرات على الأفراد وحدهم. فالحكومات والجهات الصحية العامة لها دور محوري في هذا الجانب، إذ تؤكد ماكغروسكي أن "شراء كيس من رقائق البطاطس قد يكون أسهل أو أرخص أحيانًا من شراء كيس من الجزر"، ما يجعل من الضروري – على المستوى النظامي – العمل على جعل الأغذية الطازجة قليلة المعالجة متاحة، ومتوفرة، وبأسعار في متناول الجميع.