ألبرت باندورا: رائد نظرية التعلم الاجتماعي وأثره على فهمنا للصحة النفسية
تروي المقالة قصة عالم النفس الكندي ألبرت باندورا الذي غير فهمنا للإنسان من خلال نظرية التعلم الاجتماعي. يستعرض النص حياته العلمية، وكيف كشف أن الناس يتعلمون من خلال الملاحظة والنمذجة، ويشرح كيف ساعدت أفكاره في تطوير برامج علاجية وتربوية لتحسين الصحة النفسية.
يولد العلماء الكبار في ظروف تبدو عادية للوهلة الأولى، لكنهم يحملون معهم شرارة تحول نظريات العالم. ولد ألبرت باندورا عام 1925 في بلدة موندا بمنطقة ألبرتا الكندية. كطفل ثالث لوالدين مهاجرين من أوروبا الشرقية، اعتاد أن يعتمد على نفسه في بيئة قروية نائية تفتقر إلى مؤسسات تعليمية متطورة. هذا الاعتماد المبكر على الذات والإحساس بأن التعليم يجب أن يكون نافذًا لعالم أكبر من قرية زراعية هو ما زرع فيه الفضول الذى سيقوده إلى دراسة علم النفس. في جامعة كولومبيا البريطانية، أثبت باندورا أنه طالب سريع الفهم للتيارات الفكرية وتخرج بامتياز لينتقل إلى جامعة أيوا، حيث تأثر بمدارس السلوكية الحديثة. هناك، بدأ يتساءل عن الحدود الصارمة للتكييف السلوكي التي وضعها سكنر وواتسون: هل الإنسان مجرد كائن يتلقن السلوك عبر المكافأة والعقاب أم أن له قدرة خفية على التعلم من خلال النظر إلى الآخرين؟
يتجلى الجواب في أشهر تجاربه، تجربة "دمية بوبو" الشهيرة التي أجراها مطلع الستينيات. يروي باندورا أنه استلهم الفكرة من مراقبة كيف يقلد الأطفال بعضهم البعض في ساحات اللعب. في التجربة، شاهد الأطفال أشخاصًا بالغين يعتدون على دمية قابلة للنفخ، ثم تركوا بمفردهم معها. المفاجأة لم تكن في أنهم قلدوا العدوان فحسب، بل في أنهم أبدعوا سلوكيات جديدة لم يروا الكبار يبتكرونها. لقد أظهر باندورا أن التعلم لا يحدث فقط من خلال التجربة المباشرة، بل أيضًا عن طريق "التعليم بالملاحظة" و"النمذجة" و"التقليد". لقد كشف النقاب عن مفهوم "التعزيز غير المباشر"؛ إذ يستوعب الفرد النتائج الإيجابية أو السلبية التي تقع لغيره فيتعلم منها دون أن يختبرها بنفسه. هذا الكشف هز أركان السلوكية الكلاسيكية وفتح الباب لنظرة أكثر إنسانية لنفسية البشر. لقد أدرك باندورا أن البشر يبنون عوالمهم الداخلية استنادًا إلى صور ونماذج يتفاعلون معها، وأن التنشئة والسياق الثقافي يحددان نوع النماذج التي نقتدي بها.
لم يكتف باندورا بهذا التحول النظري، بل انتقل إلى طرح مفهوم "فاعلية الذات" فى السبعينيات والثمانينيات. يتلخص هذا المفهوم في إيمان الشخص بقدرته على تنظيم نشاطه والتحكم في نتائج أفعاله، وهو عامل حاسم في علاج الكثير من الاضطرابات النفسية. في كتاباته، يربط باندورا بين ضعف فاعلية الذات وتطور الاكتئاب والقلق والعجز المكتسب، ويؤكد أن تعزيز الثقة الداخلية للفرد يساعده على مواجهة الخوف وتغيير سلوكياته المدمرة. كثير من برامج العلاج النفسي الحديثة تستند إلى هذا المفهوم، بحيث يُشجع الأشخاص على مراقبة أفكارهم، إعادة تفسيرها، والإنخراط في مواقف تجريبية جديدة لاختبار توقعاتهم. هذه المبادئ تشكل اليوم العمود الفقري للعلاج المعرفي السلوكي والتحليل النفسي الاجتماعي.
تكمن قوة نظرية باندورا في أنها لا تركز على الفرد بمعزل عن محيطه، بل تضع الإنسان في شبكة من العلاقات المتبادلة بين الإدراك والسلوك والبيئة، وهو ما سماه "التحديد التبادلي". بهذا الفهم، يصبح بناء الصحة النفسية مشروعًا اجتماعيًا؛ فاختيار نماذج إيجابية في الإعلام والأسرة والتعليم، وتوفير فرص للمراقبة البناءة، يمنح الأفراد مساحات للتعلم والنمو. إذا كنا نتحدث اليوم عن برامج تلفزيونية تعليمية أو عن حملات توعوية تغير السلوك الجمعي، فإننا نسير على خطى باندورا في رؤية أن النماذج تلهم وتدفع للتغيير. إن قراءة حياة باندورا وأعماله تعطينا درسًا في القوة الخفية للتأثير غير المباشر؛ كيف يمكن لصورة عابرة أو قصة ملهمة أن تبني شخصية، وتشكل مصيرًا، وتحدد مسارًا لصحة نفسية متوازنة.
في النهاية، يظهر ألبرت باندورا بوصفه شاعرًا للعقل البشري في عصر علم النفس الاجتماعي؛ فهو لم يضع نظرية جافة، بل رسم خريطة لاستراتيجيات التغيير التي تعيد للإنسان فاعليته. في عصر تتداخل فيه المنصات الرقمية والأدوار الاجتماعية، تظل نظريته حية، تذكرنا بأننا لا نعيش بمفردنا بل نبني أنفسنا من خلال الآخرين. هذه الرؤية المتأنية تربط بين الحكمة القديمة التي دعت إلى التربية بالقدوة وبين العلم الحديث الذي يضع الصحة النفسية على رأس الأولويات. لذلك فإن التعلم بالملاحظة ليس مجرد سلوك طفولي، بل هو الطريق الذي يسلكه العقل دائمًا لبناء المعنى ومقاومة الاضطراب.






