مراجعة رواية صورة دوريان جراي: هل الشباب الأبدي نعمة أم لعنة؟
هل الجمال الأبدي نعمة أم لعنة؟ مقال تحليلي يتناول رواية صورة دوريان جراي ويكشف كيف يمكن لهوس الجمال أن يُغرق الإنسان في الجنون ويقوده إلى فقدان بوصلة ضميره وأخلاقه.

يُفني أكثرُ الناس أعمارَهم في السعي لبلوغ غايةٍ ما؛ يركضون في مضمار الحياة ركضَ الملهوف، يطاردون نهايةً يسكّنون بها توجّسهم الدائم—سواء سعوا إلى التقاعد، أو أسّسوا بيتًا وأُسرة، أو جاهدوا ليبلغوا مقام الصلاح والفضيلة.
ورغم أنّ هذه الغايات تبدو مألوفةً في أعين الخلق، تظلّ رغبةُ التزيّن بالجمال أشدَّها شيوعًا وأقواها سلطانًا على القلوب.
فمتى ينقلب الجمالُ من بهجةٍ للنفس إلى أسرٍ للروح وإدمانٍ بغيض؟ وكيف يتخلّص الإنسان من طغيان هذا الوباء؟
هوس الجمال: هل نركض خلف وهمٍ لا يُدرك؟
تأمّل في قائمةٍ تضمّ ما تراه من مباهج الوجود وأبهى صُوَره؛ تخيّل بعين البصيرة من تحبّ، أو موطنًا عزيزًا على النفس، أو فنجان قهوةٍ يفوح عبيره في سكون الصباح. أغلب الظنّ أنّك لم تُدرج نفسك ضمن هذه القائمة.
فمنذ العهد الإغريقي القديم، لم يزل الإنسان يضخّم شأن الجمال الظاهري، ويمنحه من القيمة ما يفوق القدر. واليوم، ومع فيضان الشاشات بكل مرئيٍّ ومصوَّر، يتلقّى المرء سيلًا عرمًا من الصور والمفاهيم عمّا ينبغي أن يكون عليه المرء، وكيف يُدرك ذلك.
منذ الطفولة، يُغرس في أذهاننا أننا لا نُولد في هيئة الجميل، بل نُساق إلى التصوّر بأنّ الجمال غايةٌ تُطلب، وأنّ النفس لا تنفكّ تفتّش عن عيبٍ تخفيه أو نقصٍ تسدّه، حتى تُشغَل عن ذاتها الأصلية، وتغدو أسيرة المرايا.
حين يقود هوس الجمال إلى فساد النفس
غير أنّ موطن الخطر لا يكمُن في الهوس بالجمال فحسب، بل في تحوّله إلى لعنةٍ تُردي صاحبها، كما جرى في رواية صورة دوريان جراي لأوسكار وايلد، وهي من آيات الأدب الفيكتوري. تحكي الرواية سيرةَ شابٍ إنجليزي ثريّ، يُدعى دوريان جراي، رفع قَدرَ شبابه ووسامته فوق كلّ قيمةٍ أخرى.
وصفه صديقه الرسّام بازيل بأنه فتىً بالغ الجمال، حتى بلغ به الإعجاب مبلغًا جعله يسعى إلى توثيق ذلك الحسن في لوحاته. بل إنّ دوريان نفسه أدرك جاذبيته، وحين ذاق طعم الامتياز الذي تمنحه الوسامة، تعلّق به تعلّق الظمآن، وبذل الغالي والنفيس كي لا يفلت من بين يديه.
ولـمّا جاور أهل الهوى، وارتشف من كؤوس المتعة، مالَ عن جادة الأخلاق، وانغمس في أودية الفساد، يجرّب كلّ رذيلة، ويغوص في عيشٍ مترفٍ لا يعرف الاعتدال. ومع كلّ فعلٍ أنانيّ يأتيه، تتشوّه صورته المرسومة، ويغور الجمال من قسماتها شيئًا فشيئًا.
لقد انقلبت تلك اللوحة مرآةً لروحه، تُجسّد ما خفي من سُوداويّة نفسه، وتشيخ بقدر ما يتشبّث هو بشبابٍ زائف. وخطيئة دوريان القاتلة، والتي يشترك فيها كثير منّا، أنّه آثر الخلود في هيئةٍ حسناء، على أن يشيخ قلبُه في سكينة، ويبلغ فضيلة الشيخوخة في صفاء.
أما أوسكار وايلد، فقد كشف في كتاباته عُوار الانغماس في الذات، وما يفضي إليه من فساد الخُلق، إذ لا يخرج التعلّق بالجمال عن كونه طريقًا ممهّدًا إلى التمحور حول الأنا.
ولئن بدا لوم النرجسيّة أمرًا يسيرًا، فالأجدر بالنفس أن تنقّب في الأعماق، وألا تكتفي بالحُكم على ظاهر الأمر. ففي خواتيم الرواية، يعرض دوريان صورته المشوّهة على بازيل، الذي أذهله ما رآه، فاستحثّه على التوبة والرجوع. غير أنّ دوريان، وقد تغلغل فيه السواد، زعم أنّ باب الندم أوصد، ثم انقضّ على باسيل وقتله في نوبةٍ من الغضب الأهوج.
وهكذا، هوت صورة الجمال الحقّ بيد من اغتال بجماله واستعاض به عن ضميرة وأخلاقه!
سراب الكمال وجمال الفضيلة
إنّنا، نحن بني الإنسان، نغرق في وهم الجمال، رغم علمنا أنّ بلوغه التامّ محال. ولعلّ سبب هذا الإغراق، أنّنا نركض خلف سرابٍ لا يُدرك، فنتّخذ من سعينا هذا سلّمًا إلى الجنون شيئًا فشيئًا. ودوريان، في ذلك، لا يختلف عن كثير من الناس؛ لم تَكمُن خطيئته في حبّه للجمال، بل في استعداده للتفريط في أخلاقه، مقابل مزيدٍ من الجاذبية التي لا يمكن لها أن تنبت في أرضٍ يُمنع فيها الكمال.
وإذا استحال الكمال في عالمنا، فما بالنا لا نني نطلبه؟ الجواب بسيط: ما زلنا نؤمن، في أعماقنا، بأنّ الكمال يحجب عنا مصاعب الحياة ويصوننا من عثراتها. ومع ذلك، نُبتلى بالكدّ والعناء.
والكمال الأجمل، إن وجِد، لا يُقاس بنضارة الوجه، ولا بانسجام الملامح، بل بمقدار ما يفيض قلبُك به من حبٍّ لنفسك ولمن حولك، وما تخلفه من أثرٍ ينفع الناس.