نظرية التعلم الاجتماعي لألبرت باندورا: كيف نشكل أنفسنا من خلال الآخرين
في هذا المقال نستعرض نظرية التعلم الاجتماعي التي أبدعها عالم النفس ألبرت باندورا، والتي تركز على دور الملاحظة والتقليد والنماذج السلوكية في تشكيل شخصياتنا وصحتنا النفسية.

في عالم يسهل فيه توارث العادات والسلوكيات من جيل إلى آخر، كانت عقولنا تتكيف مع قوة تقليد الآخرين أكثر مما نعترف به. ألبرت باندورا، أحد أعلام علم النفس الحديث، فتح أعيننا على حقيقة أن الإنسان لا يتعلم فقط من تجارب الألم والمتعة الخاصة به، بل من مشاهدة الآخرين وهم ينجحون أو يتعثرون. كانت نظرية التعلم الاجتماعي التي صاغها باندورا بمثابة انقلاب على فهمنا للذات. في مجتمعات ما بعد الحداثة، حيث تنتشر الشاشات وتتحول النماذج السلوكية إلى صور مكررة عبر المنصات، يصبح السؤال: كيف يهيمن الآخرون على تشكيل ذاتك؟
باندورا انطلق من الملاحظة. في الستينيات أجرى تجربة "الدمية بوبو" الشهيرة. في المختبر، جلس الأطفال يشاهدون شخصًا بالغًا يضرب دمية قابلة للنفخ بعنف. لاحقًا، حين تُرك الأطفال بمفردهم مع نفس الدمية، قاموا بتقليد العدوانية بلا تردد. هذه اللحظة المكشوفة أثبتت أن التعلم بالملاحظة، أو ما يسميه باندورا "النمذجة"، قوة هائلة في تشكيل السلوك. لم يكن الأطفال بحاجة إلى التوجيه اللفظي؛ مجرد رؤية النموذج كانت كافية لبرمجة أفعالهم. وإذا كان الأطفال يتعلمون العدوانية من مشاهدة شخص واحد، فكيف بنا نحن في عالم يفيض بالشخصيات المؤثرة والصور المتناقضة؟
يمضي باندورا ليؤكد أن التعلم الاجتماعي يعمل عبر ثلاثة عناصر: الانتباه، الاحتفاظ، والتقليد. ننتبه لما يثير اهتمامنا، نخزن الصورة في الذاكرة، ثم نحاكيها حين تسنح الفرصة. لكن هناك عنصرًا رابعًا لا يقل أهمية: التعزيز. فالطفل الذي يرى شخصًا يحظى بالثناء بسبب سلوك معين سيزداد لديه احتمال تقليد ذلك السلوك مقارنة بمن يشاهد العقاب. هنا تتجلى أهمية البيئة الاجتماعية والإعلامية. عندما يكرم المجتمع من يمارسون العنف أو التبذير، فإنه يرسل رسالة خفية لأفراده بأن ذلك السلوك مقبول. هكذا تنسج شبكة غير مرئية من المعايير تمتد عبر العائلات والمدارس والمنصات الرقمية.
من منظور الصحة النفسية، تطرح نظرية باندورا سؤالًا خطيرًا: ما الذي يغذي اضطراباتنا أو يخفف منها؟ إذا كانت عقولنا تتشكل جزئيًا عن طريق الآخرين، فإن التعرّض المستمر لنماذج سلبية – سواء كانوا آباءً منتقدين أو مشاهير متباهين – يمكن أن يزرع فينا شعورًا بالنقص أو الخوف. بالمقابل، فإن تحيط نفسك بنماذج إيجابية لأشخاص مرنين، متعاطفين، يواجهون الحياة بجرأة وحكمة، سيترك بصماته على عقلك اللاواعي. إن قوة التقليد هي التي تجعل بعض البلدان تزدهر بثقافات قائمة على التعاون والاحترام، في حين تظل أخرى أسيرة لعنف موروث.
تذكر أن روبرت غرين، في كتبه حول السلطة والاستراتيجية، يخبرنا بأن البشر يصنعون مصائرهم من خلال قراءة مسرحيات الآخرين وفهمها. هو ذات المنطق الذي يطرحه باندورا: المعرفة الحقيقة لا تأتي فقط من الداخل، بل من مراقبة القوى الخارجية التي تحرك الخيوط الخفية في حياتك. إذا أردت أن تكتسب عادات سليمة وتعزز صحتك النفسية، فاختر نماذجك بعناية. انزع نفسك من بيئات سامة تحرض على السلبية، وابحث عن مجتمع يقدم قدوات ملهمة. وفي عصر التكنولوجيا، كن واعيًا لما تتابعه: الحسابات التي تتابعها، الأفلام التي تشاهدها، وحتى الكلمات التي تسمعها تتحول شيئًا فشيئًا إلى جزء من شخصيتك.
في النهاية، لا تقتصر نظرية التعلم الاجتماعي على كونها إحدى نظريات علم النفس، بل هي دعوة إلى الوعي والاختيار. أنت في معركة غير مرئية مع الصور والأصوات من حولك. انتصر فيها بأن تصبح سيدًا لا عبداً، واختر أن تتعلم من أفضل ما يقدمه البشر، لا من أسوأ ما يعرضه العالم. بهذه الطريقة، ستتحول ملاحظتك للآخرين إلى مصدر قوة، لا إلى قيد يحدد مصيرك.