لماذا تفشل بعض الدول في بناء اقتصاد المعرفة بينما تنجح أخرى؟

لماذا تفشل بعض الدول في بناء اقتصاد المعرفة رغم استثماراتها الضخمة في البحث والابتكار؟ يستكشف هذا المقال الفرق بين استهلاك المعرفة وصناعتها، ودور الاستثمار الذكي في بناء اقتصاد قائم على التحكم في إنتاج المعرفة، وليس مجرد تبنيها.

لماذا تفشل بعض الدول في بناء اقتصاد المعرفة بينما تنجح أخرى؟
اقتصاد المعرفة ليس لمن يستهلكه، بل لمن يتحكم في اكتشافه، إنتاجه، واستثماره بذكاء.


صراع الأمم بين استهلاك المعرفة وصناعتها

هناك خرافة تتكرر في الأوساط الأكاديمية والاقتصادية، تقول إن اقتصاد المعرفة يبدأ من البحث العلمي، وإن الاستثمار في التعليم والابتكار كافٍ لتضع الدولة نفسها على خارطة الدول المتقدمة. لكن إذا كان هذا صحيحًا، فلماذا تنفق دول مليارات الدولارات على التعليم والبحث، دون أن تنتج أي معرفة ذات قيمة عالمية؟ ولماذا تحتكر قلة قليلة من الدول العوائد الحقيقية لاقتصاد المعرفة، بينما تبقى البقية في موقع المستهلك الأبدي؟

الحقيقة أن اقتصاد المعرفة ليس مجرد مرحلة تبدأ من البحث العلمي، بل هو منظومة ثلاثية الأبعاد، تتكون من:

  1. تطوير منهجيات الاكتشاف
  2. إنتاج المعارف الجديدة
  3. تحويل المعرفة إلى تطبيقات اقتصادية

المرحلة الأولى: تطوير منهجيات الاكتشاف – القوة الخفية التي تملكها أقل من 2% من الدول

هذه المرحلة هي القلب النابض لاقتصاد المعرفة، لكنها أيضًا الأكثر ندرة وصعوبة. الدول التي تسيطر على هذه المرحلة هي التي تحدد كيف يفكر العالم، كيف يجري الأبحاث، كيف يحلل البيانات، وكيف يصل إلى الحقائق.

معظم الدول لا تدرك أن قوة المعرفة لا تكمن فقط في إنتاج المعلومات، بل في السيطرة على الطريقة التي تُكتشف بها المعلومات. إن المنهجيات البحثية والتقنيات التحليلية ليست محايدة، بل هي جزء من نظام معقد تتحكم فيه الدول التي تنتجها، حيث تقوم بتصديرها إلى بقية العالم فقط بعد أن تستهلكها داخليًا وتحصل على أقصى قيمة منها.

ما يحدث هو أن الدول التي لا تنتج هذه المنهجيات تأخذها كما هي، تطبقها دون مساءلة، وكأنها كتاب مقدس، مما يفقدها القدرة على اكتشاف معارف جديدة بطريقة مستقلة.

لنأخذ مثالًا واضحًا:

في الطب والعلوم الاجتماعية، هناك منهجيات بحثية تُحدد كيف يتم إجراء الدراسات، وكيف يتم تحليل النتائج، وكيف تُقبل أو تُرفض النظريات. الدول التي تطور هذه المنهجيات هي التي تقود عجلة الاكتشاف العلمي، بينما الدول الأخرى تستهلكها فقط. هذه الدول لا تتساءل: هل هذه المنهجيات مناسبة لبيئتنا؟ هل تعكس واقعنا؟ هل يمكن تطوير طرق بحثية مختلفة أكثر دقة لاحتياجاتنا؟

النتيجة هي أن الدول المستهلكة للمعرفة تجد نفسها دائمًا في موقع التابع، حيث يكون أقصى طموحها هو استخدام المنهجيات التي وُضعت في بيئات أخرى، لحل مشكلات محلية، دون أن يكون لها القدرة على خلق إطارها الفكري الخاص بها.

هذا هو السبب في أن نسبة الدول التي تنتج المنهجيات أقل من 2% عالميًا، فهذه ليست مجرد عملية بحث علمي، بل هي عملية تحكم فكري واقتصادي طويل الأمد.

المرحلة الثانية: إنتاج المعارف الجديدة – عندما تحصل على المنهجية أولًا، تحصل على الاكتشافات لاحقًا

عندما تمتلك دولة ما القدرة على تطوير منهجياتها الخاصة، فإنها تفتح لنفسها الباب نحو إنتاج معارف جديدة. هذه المرحلة ليست سهلة، لكنها أسهل بكثير من المرحلة الأولى، لأن الدولة هنا لا تحتاج إلى إعادة اختراع العجلة، بل تحتاج فقط إلى استغلال الأدوات التي طورتها لصناعة معرفة جديدة.

المشكلة أن معظم الدول لا تصل إلى هذه المرحلة إلا متأخرة، بعد أن تكون الدول الرائدة قد اكتشفت أغلب المعارف الكبرى، وحصدت أغلب الفوائد الاقتصادية المرتبطة بها.

خذ مثالًا على ذلك:

عندما بدأت ثورة الذكاء الاصطناعي، كانت الدول التي طورت المنهجيات الأساسية لهذا المجال – مثل التعلم العميق والخوارزميات المتقدمة – هي التي قادت الاكتشافات الكبرى. أما الدول التي تبنت الذكاء الاصطناعي لاحقًا، فقد وجدت نفسها في موقف المستهلك، حيث تقوم باستخدام التقنيات المتاحة، لكن دون أن يكون لها القدرة على إعادة تعريف قواعد اللعبة.

إنتاج المعرفة ليس مجرد بحث علمي، بل هو سباق زمني. الدول التي تصل مبكرًا هي التي تستفيد، بينما الدول التي تصل متأخرة تجد نفسها عالقة في وضع الباحث عن الفجوات، تحاول استكشاف ما تبقى من الأسئلة التي لم يُجب عليها بعد، بدلًا من أن تكون هي من يحدد الأسئلة نفسها.

المرحلة الثالثة: تحويل المعرفة إلى تطبيقات اقتصادية – عندما يصل السوق متأخرًا جدًا

المرحلة الأخيرة هي التي تتعلق بتحويل المعرفة إلى اقتصاد حقيقي، عبر ربط البحث العلمي بريادة الأعمال والتصنيع والتطبيقات التجارية. هذه المرحلة هي الأكثر وضوحًا، لكنها الأقل تأثيرًا على المدى البعيد إذا لم تُسبق بالمرحلتين السابقتين.

بمعنى آخر، يمكن لأي دولة أن تستورد التكنولوجيا وتبدأ في استخدامها، لكن الدول التي لا تمتلك التحكم في منهجيات الاكتشاف ولا تمتلك إنتاج المعرفة الأصلي، لن تكون قادرة على تحقيق الريادة في أي مجال.

هناك اعتقاد خاطئ بأن تطبيقات المعرفة وحدها كافية لبناء اقتصاد معرفي، لكن هذا وهم. نعم، يمكن أن تحقق الدول نموًا اقتصاديًا عبر تبني التقنيات الجديدة وتطوير نماذج أعمال تعتمد على الأبحاث المستوردة، لكنها ستظل دائمًا تابعة للدول التي سبقتها في المرحلتين الأوليين.

لماذا تفشل بعض الدول وتنجح أخرى؟

النماذج الاقتصادية التقليدية تخبرنا أن النجاح في اقتصاد المعرفة يعتمد على الاستثمار في التعليم، البحث العلمي، وتحفيز الابتكار. لكن هذه ليست الصورة الكاملة.

الحقيقة هي أن الدول التي تفشل في بناء اقتصاد المعرفة ترتكب أخطاء جوهرية في فهم التسلسل الزمني لعملية إنتاج المعرفة.

  1. الدول الفاشلة تبدأ من المرحلة الثالثة مباشرة، معتقدة أن الابتكار وريادة الأعمال كافيان دون الحاجة إلى تطوير الأسس الفكرية والعلمية للمعرفة.
  2. الدول التي تحقق نجاحًا محدودًا تصل إلى المرحلة الثانية، لكنها تفشل في كسر الحاجز الأول، فتبقى معتمدة على منهجيات لم تطورها بنفسها.
  3. الدول القادرة على المنافسة الحقيقية هي التي تمتلك المراحل الثلاث بشكل متوازن، بحيث لا تقتصر على استهلاك المعرفة، بل تساهم في إنتاجها والتحكم في طرق اكتشافها.

كيف يمكن للدول أن تبدأ؟

لكي تصبح أي دولة لاعبًا رئيسيًا في اقتصاد المعرفة، لا يمكن أن تبدأ من تطبيقات المعرفة وحدها. عليها أن تعمل على بناء بيئة فكرية تسمح بتطوير منهجيات الاكتشاف أولًا، لأن هذه هي النقطة التي يبدأ عندها التحكم الحقيقي في المعرفة.

هذا يتطلب تغييرات جذرية في الطريقة التي يتم بها التفكير في البحث العلمي والتعليم العالي. يجب أن يكون هناك استثمار ليس فقط في إنتاج الأبحاث، بل في إنتاج الطرق التي يتم بها إجراء الأبحاث.

بدون هذا الفهم العميق، ستظل معظم الدول في موقع المستهلك، تعتمد على معارف الآخرين، تطبق تقنيات تم تطويرها في أماكن أخرى، وتحاول اللحاق بركب التطور دون أن تمتلك يومًا القدرة على قيادة هذا الركب بنفسها.

اقتصاد المعرفة ليس للجميع

اقتصاد المعرفة ليس مسارًا مفتوحًا لكل الدول، بل هو لعبة يحدد قواعدها من يسيطر على مراحلها الأولى. الدول التي تعتقد أن بإمكانها القفز مباشرة إلى مرحلة التطبيقات ستظل دائمًا متأخرة، تخوض سباقًا خاسرًا ضد الدول التي امتلكت المبادرة منذ البداية.

إذا لم تستطع دولة ما تطوير أساليبها الخاصة لاكتشاف المعرفة، فإنها مهما استثمرت في البحث والابتكار، ستظل دائمًا تابعة لمن سبقها في التحكم في كيفية صنع المعرفة نفسها.