جون بولبي ونظرية التعلق: كيف شكلت رؤيته فهمنا للعلاقات والطفولة
تأخذك هذه المقالة في رحلة عبر حياة المحلل النفسي جون بولبي لفهم جذور نظرية التعلق. نتناول كيف أثرت تجاربه الشخصية ودراساته العلمية في تطوير مفهوم التعلق الآمن وأهمية الرعاية المبكرة، ثم نسلط الضوء على تعاون بولبي مع ماري أينسورث وتصنيف أنماط التعلق، وأثر ذلك في العلاج النفسي والسياسات الاجتماعية وفي فهمنا لعمق العلاقات الإنسانية.
الجذور الشخصية لنظرية التعلق
نشأ جون بولبي في عائلة بريطانية ميسورة في بداية القرن العشرين، لكنه لم ينعم بحضور أبوين متفرغين. مثل كثير من أبناء الطبقة الأرستقراطية في تلك الحقبة تولت مربّية رعايته العاطفية، ثم أُرسل إلى مدرسة داخلية وهو في سن مبكرة. هذه التجارب صنعت في داخله وعياً مبكراً بفقدان الاتصال وقسوة الانفصال. ومن المفارقات أن الطبيب الذي سيصبح لاحقاً رمزاً للتعلق الآمن عاش طفولة مثقلة بالإهمال العاطفي، وهو ما دفعه لاحقاً إلى دراسة التجارب المبكرة وتحليلها. لقد أدرك بولبي أن الشخصيات المتسمة بالسطوة أو الضعف لا تولد معزولة، بل تتشكل في حضن العائلة. القصة التي رواها عن نفسه تشبه قصص روبرت غرين عن الطموح والسلطة: رحلة شاقة عبر الألم الشخصي لاستخلاص درس إنساني عام.
عمل بولبي كطبيب ومعالج نفسي مع الجنود والأطفال أثناء الحرب العالمية الثانية. وبدلاً من الاكتفاء بالاقتباس من نظريات فرويد أو سلوكيات واطسون، كان يراقب الوجوه المضطربة بعين إكلينيكية تبحث عن صلة مفقودة. رأى في عيون الجنود الجرحى حنيناً إلى حضن أم، وفي تصرفات الأطفال الأيتام حاجة لا تشبع لوجود بالغ يهتم بهم. هذه الملاحظات دفعت بولبي إلى الاعتقاد بأن السلوك البشري لا يمكن فهمه دون إدراك جذور التعلق. بدا له أن الإنسان، مثل أي كائن اجتماعي، يحتاج إلى من يحميه كي يبدأ ببناء إحساسه بذاته.
ولادة نظرية التعلق
في عام 1950 كلفته منظمة الصحة العالمية بكتابة تقرير عن الأيتام في أوروبا. أعد بولبي تقريره الشهير «الرعاية الأمومية والصحة النفسية» الذي قلب التصور السائد بشأن حاجة الأطفال. اعتبر أن وجود علاقة دافئة ومستمرة مع مقدم رعاية أولي يوازي الغذاء والدواء في أهميته، وأن غياب تلك العلاقة يترك ندوباً عميقة في النفس. مستنداً إلى علم النفس التطوري وعلم السلوك الحيواني، وصف التعلق بوصفه نظاماً غريزياً يضمن بقاء الرضيع على قيد الحياة عبر جذب الوالدين إليه. هذه الفكرة الثورية حررت النقاش الطبي من نظريات الأنا المتعالية ووجهته نحو الروابط اليومية الملموسة.
في الستينات تعاون بولبي مع تلميذته ماري أينسورث التي طورت «إجراء الموقف الغريب» لتصنيف أنماط التعلق إلى آمن ومتجنب وقلق ولاحقاً غير منظم. أظهرت أبحاثهما أن الطفل الذي يحصل على استجابة حساسة ومتسقة من الوالدين يطور نموذجاً داخلياً إيجابياً عن الذات والآخرين، بينما يؤدي التذبذب أو الإهمال إلى أنماط تعلق مضطربة. أطلق بولبي على العلاقة الأولية مصطلح «القاعدة الآمنة» التي ينطلق منها الطفل لاستكشاف العالم ثم يعود إليها عند الخطر. يشبه وصفه هنا لغة روبرت غرين عن السعي إلى السلطة من قاعدة آمنة: فكما يحتاج القائد إلى حصن يعود إليه، يحتاج الطفل إلى حضن آمن ليجرؤ على المغامرة.
كيف غيرت النظرية فهمنا للصحة النفسية
لم تظل نظرية التعلق مجرد تأملات عن الطفولة، بل تحولت إلى إطار يفسر صعوبات البالغين في الحب والعمل. أظهر بولبي أن الإنسان يحمل داخله خريطة للعلاقات تُبنى في السنوات الأولى وتوجه اختياراته لاحقاً. هؤلاء الذين حُرموا من رعاية مطمئنة قد يبحثون عن شريك مستبد أو يفرون من الالتزام خوفاً من الألم. استندت علاجات معاصرة مثل العلاج المرتكز على المشاعر إلى هذا المنطق: يمكن إعادة تشكيل تلك الخريطة عبر علاقة علاجية آمنة يستعيد فيها العميل ثقته بالآخر. كما أثرت النظرية على سياسات الرعاية، فصارت دور الأيتام تتيح للأطفال الارتباط بمقدمي رعاية ثابتين بدلاً من تبديل العاملين باستمرار، وأصبح التبني المبكر وسيلة للوقاية من الاضطرابات النفسية.
في مجال علم النفس العيادي، قدّمت نظرية التعلق مفهوماً مختلفاً للقوة والضعف. فهي ترى أن القوة تنبع من القدرة على الاعتماد على الآخرين عند الحاجة، لا من الإنكار المتعالي للاحتياج. هذا الإدراك قلب تصورنا عن الاستقلالية، وبيّن أن التحكم في المشاعر يبدأ بوجود من يتقبلها. كذلك وفرت النظرية تفسيراً لاضطرابات الشخصية والقلق والاكتئاب من خلال تحليل تجارب التعلق المبكرة. الإنسان الذي لم يتلقَ تعاطفاً عندما كان يبكي قد يتعلم أن يخفي مشاعره، ثم يعاني لاحقاً من جمود وجداني أو انفجارات غضب. تستحضر هذه المفارقة أسلوب غرين في وصف تحول المعاناة إلى قوة خفية تقود السلوك.
التطبيقات المعاصرة والتحديات
تغلغلت أفكار بولبي في ميادين التربية والإرشاد الزوجي وحتى السياسات العامة. ينصح الأخصائيون اليوم الآباء بأن يكونوا متاحين ومتجاوبين حتى يكوّن أطفالهم شخصية مرنة. في العلاج الأسري، تُستخدم لغة التعلق لفهم الخلافات بين الأزواج: هل يتجنّب أحد الطرفين التواصل بسبب خوف قديم من الرفض؟ أم يتشبث بالآخر لأنه تعلم أن الحب هش؟ من خلال إعادة بناء قاعدة آمنة يمكن للزوجين أن يكسرا دائرة اللوم ويستعيدا الثقة. كما ساهمت نظرية التعلق في الاعتراف بأهمية الإجازة الوالدية المدفوعة وتعزيز الدعم المجتمعي للأمهات، إذ لا يمكن تحميل فرد واحد عبء بناء عقل سليم.
رغم قوة النظرية، حذر بولبي من اختزال الإنسان في تجارب طفولته. فالعلاقات اللاحقة والحوادث الكبرى تستطيع تعديل النماذج الداخلية وتفتح المجال للتغيير. في عالم اليوم الذي تتغير فيه أشكال الأسرة ويتنوع مقدمو الرعاية، تواجه نظرية التعلق تحديات جديدة، لكن جوهرها يظل ثابتاً: نحن كائنات اجتماعية، نتقوى بالعلاقات الآمنة ونضعف عند فقدانها. وهذا الوعي يمنحنا سلطة على مصايرنا إذا أحسنّا اختيار وتشكيل الروابط. تلك هي حكمة بولبي، تشبه نصائح غرين في استعمال المعرفة التاريخية لبناء الحاضر.






