لماذا لا تغرق السفن؟ رحلة إلى عالم الطفو والتصميم البحري
تحكي هذه المقالة قصة القوة الخفية التي تمنع السفن من الغرق. نتعرف فيها على مبدأ أرشميدس الذي يفسر قوة الطفو، وكيف يعمل حجم الهواء داخل السفينة على تقليل كثافتها، ونستعرض الأساليب الهندسية لتصميم هياكل السفن وتقسيماتها الداخلية لضمان التوازن والسلامة في البحر. بأسلوب ممتع يجيب عن أسئلة الأطفال ويشعل فضولهم لمعرفة كيف تنجح السفن في تحدي قوانين الطبيعة.
                                    على شاطئ البحر، ربما وقفت يوماً مدهوشاً أمام سفينة ضخمة تحمل عشرات الأطنان من الفولاذ والحمولات وهي تطفو على الماء بلا خوف. تَساءلت مثل طفل: كيف يكون ذلك؟ كيف لا تغرق السفينة رغم وزنها الهائل؟ يبدو الأمر كأنه سحر، لكن وراء هذا المشهد قانون علمي وقصة بشرية ممتدة عبر القرون، قصة أبطالها علماء وبحارون أدركوا أسرار الماء والوزن والطفو.
قوة الطفو: الدرس الذي علمنا إياه أرشميدس
الحكاية تبدأ في مدينة سيراكوس القديمة، حيث كان العالم اليوناني أرشميدس يستحم في حوض الحمام. عندما لاحظ أن الماء يرتفع ويخرج من الحوض كلما غمر جسمه، صرخ «وجدتها!» واكتشف ما يسمى اليوم بمبدأ أرشميدس. هذا المبدأ البسيط والعميق يقول إن أي جسم يغمر في سائل يتعرض لقوة دفع إلى الأعلى تساوي وزن السائل الذي يزيحه هذا الجسم. السفينة إذن تطفو لأن وزن الماء الذي تزيحه يساوي أو يزيد على وزنها، مما يجعل قوة الطفو تدفعها إلى أعلى. كلما كان هيكل السفينة كبيراً من الأسفل، زادت كمية الماء المزاح وزادت قوة الطفو. لذلك ترى السفن مصممة بهياكل عريضة وتجاويف داخلية تمتلئ بالهواء، مما يخفف وزنها الفعلي مقارنة بحجمها.
حتى لو كانت السفينة مصنوعة من الفولاذ، فإن الفضاء الفارغ داخلها يجعل متوسط كثافتها أقل من كثافة الماء. تماماً كما يطفو لوح خشب على الماء رغم أن الخشب أثقل من الماء جزءًا بجزء، يطفو الجسم كله إذا كان حجم الهواء والفراغ أكبر من وزن المادة. إذا امتلأت السفينة بالماء، فإن متوسط كثافتها يزداد وتنقص قوة الطفو، وعندئذ تغرق. لذا فإن الحفاظ على أنظمة العزل والتقسيم داخل السفينة ضرورة قصوى لضمان بقاء الهواء في الداخل والماء في الخارج.
تصميم السفينة والتوازن: علم وهندسة
ليس الطفو وحده ما يمنع السفينة من الغرق؛ فالتصميم الهندسي يلعب دوراً حاسماً في استقرارها. عندما يقوم المهندسون بتصميم سفينة، يحسبون بعناية موقع مركز الثقل ومركز الطفو. يجب أن يكون مركز الطفو أعلى من مركز الثقل لتبقى السفينة مستقرة. لذلك يتم توزيع الوزن والحمولات داخل السفينة بشكل متوازن، ويوضع الوقود والبضائع في أماكن خاصة تسمى الصناديق الموازنة للحفاظ على التوازن.
كما تُقسم السفن إلى حجرات متعددة، كل حجرة معزولة بجدران مانعة لتسرب الماء. إذا حدث ثقب في الهيكل ودخل الماء إلى إحدى الحجرات، تبقى الحجرات الأخرى جافة، وبذلك لا يتعرض الجسم كله للغرق. هذا النظام من العزل يشبه مجموعة من بالونات الهواء داخل جسم السفينة تحافظ على الطفو حتى في الحالات الطارئة. كما يستعمل البحارة نظاماً يسمى «القصور الذاتي» لضبط ارتفاع وانخفاض السفينة في الماء بناءً على الحمل، حيث يضيفون الماء إلى خزانات خاصة أو يفرغونه لضمان التوازن.
حتى شكل السفينة يؤثر في طريقة انسياب الماء حولها. هياكل السفن مصممة لتقسيم الماء بسلاسة وتقليل مقاومة السحب، مما يساعدها على التحرك دون أن تغوص بعمق. المواد المستخدمة في بناء السفن، مثل أنواع خاصة من الفولاذ والألياف الزجاجية، تختار بعناية لدمج القوة وخفة الوزن ومقاومة الصدأ. كل هذه العناصر – من قوانين الفيزياء إلى تفاصيل التصميم – تعمل معاً مثل أوركسترا متناغمة تحافظ على السفينة فوق الماء.
عندما تفهم كيف تطفو السفن وكيف يحافظ المصممون على توازنها، تصبح مشاهد البحار والموانئ أكثر عمقاً وإلهاماً. وراء كل رحلة ناجحة تقف معارف العلماء وحكمة البحارة ودقة المهندسين. وعلى الرغم من أن البحر يبقى مجالاً واسعاً لا حدود له، فإن الإنسانية استطاعت باستخدام العلم أن تجعل منه طريقاً للتجارة والاستكشاف. لذا، في المرة القادمة التي تلمح فيها سفينة تعانق الأفق، تذكر أن وراء قدرتها على الطفو قصة طويلة من الفضول والمعرفة والعزم، وأن طرح الأسئلة هو بداية كل اكتشاف.
                        


                    
                
                    
                
                    
                
                    
                
                    
                
                    
                
                    
                


        
        
        
        
        