العلاج المعرفي السلوكي: جذوره ومبادئه وتأثيره على الصحة النفسية

العلاج المعرفي السلوكي منهج حديث يربط بين ما نفكر فيه وما نشعر به وما نفعله، ويعود إلى الطبيب الأميركي آرون بيك. تكشف المقالة كيف أن تعديل الأفكار يقود إلى تغيير السلوك وتخفيف الاضطرابات النفسية، وتستعرض مبادئ المدرسة وتطبيقاتها العملية وتأثيرها على الصحة النفسية.

العلاج المعرفي السلوكي: جذوره ومبادئه وتأثيره على الصحة النفسية
رحلة داخل العلاج المعرفي السلوكي وكيف يمكن للأفكار أن تشكل سلوكياتنا وتعيد التوازن للصحة النفسية


في نهاية القرن العشرين لم يكن هناك وصفة سحرية واحدة لشفاء القلق والاكتئاب، بل كانت الأساليب العلاجية تتشابك بين مدارس التحليل النفسي والفلسفة الإنسانية، وجميعها تبحث عن تفسير لمعادلة بسيطة: لماذا يغرق الإنسان في تعاساته وكيف يمكن إخراجه منها؟ وسط هذا المشهد ظهرت مدرسة العلاج المعرفي السلوكي لتعلن أنها لا تريد الغوص في أعماق الطفولة ولا تحليل الرموز، بل تريد الإمساك بالخيط الذي يتسلل بين الفكرة والمشاعر والسلوك. روبرت غرين في كتاباته يشدد على قدرة الأفكار على صنع الواقع مثلما تصنع السكاكين خريطة جسد العدو، وهذا المنظور ينسجم مع ما يقوله العلاج المعرفي السلوكي: أن الأفكار هي القوة الخفية التي تحرك العواطف ثم تدفع السلوك.

العلاج المعرفي السلوكي وُلد على يد الطبيب النفسي الأميركي آرون بيك في ستينات القرن الماضي، حين اكتشف أثناء جلساته أن مرضاه ينسجون قصصاً داخلية قاتمة عن أنفسهم وعن العالم. فبدلاً من أن يلومهم على ضعفهم أو يعود بهم إلى طفولتهم، أمسك بالخيط وحاول تعديله. لقد آمن بيك بأن الإنسان يفسر الأحداث عبر عدسة ذهنية ملوثة بالأفكار السلبية، وإذا تمكّن من تنظيف تلك العدسة سيتغيّر إحساسه وسلوكه. من هنا أصبح العلاج المعرفي السلوكي منهجاً منظماً يتكون من خطوات عملية: التعرف إلى الأفكار الآلية، مساءلتها، ثم استبدالها بأخرى واقعية وبناءة. إنها إستراتيجية تشبه إعداد خطط الحرب في كتب غرين، حيث يتم رصد نقاط الضعف داخل العقل ثم قلبها إلى نقاط قوة.

وفي هذا المنهج لا يغيب الجانب السلوكي، فهو يذكّرنا بأن المعرفة وحدها لا تكفي، يجب أن يختبر المرء أفكاره على أرض الواقع. يتم تدريب المريض على الخروج من دائرة الراحة، مواجهة مخاوفه بأسلوب متدرج، حتى يتعلم أن ما كان يخشاه ليس سوى ظل منسوج من أفكار قديمة. في المسار ذاته، يدعوه المعالج إلى مراقبة جسده، أنفاسه، واستخدام تقنيات الاسترخاء. إن الهدف ليس فقط تغيير طريقة التفكير، بل إعادة برمجة الجهاز العصبي ليتفاعل بهدوء ووعي. روبرت غرين يذكر القارئ دائماً بأن من يتحكم بأعصابه يتحكم بمصيره، وهذا ما يؤكده العلاج المعرفي السلوكي عندما يعمل على استعادة السيطرة الداخلية.

ما يميّز هذا العلاج أن أدواته بسيطة لكنها عميقة؛ دفتر لتسجيل الأفكار، جلسات حوارية، تجارب عملية تُنفّذ بين الجلسات. وعلى خلاف بعض المدارس التي تخلق تبعية بين المريض والمعالج، فإن المدرسة المعرفية السلوكية تعلّم الفرد كيف يصبح معالِج نفسه، تماماً كما يعلمه غرين أن يصبح سيد لعبته الخاصة. لهذا حصدت هذه المدرسة شهرة واسعة حول العالم لفعاليتها في علاج اضطرابات مثل الاكتئاب، القلق، الرهاب الاجتماعي، وحتى اضطرابات الأكل وإدمان العادات. وقد تطورت النظريات لتشمل العلاج السلوكي الجدلي، والعلاج المعرفي المبني على اليقظة الذهنية، إلا أن الجوهر ظل ثابتاً: الأفكار هي الأرض التي تنبت عليها أفعالنا، فإذا صلحت التربة صلح الحصاد.

اليوم يجد الباحث نفسه أمام إرث غني من البحوث التي تدعم فعالية هذا المنهج. ورغم ذلك، ينبهنا علماء النفس إلى أن هذا العلاج ليس عصا سحرية، بل هو جزء من منظومة شاملة تتضمن دعماً اجتماعياً ونمط حياة صحي. ورغم بساطته، يواجه تحديات في عالمنا العربي؛ منها ندرة المتخصصين المدربين ونقص الوعي بين الناس. في مواجهة هذه التحديات يمكن استلهام روح روبرت غرين في إدراك أن القوة الحقيقية تكمن في المعرفة المطبقة، وفي تحويل الأفكار إلى قوة تغيير لا إلى قيد جديد. إذا أردنا مجتمعاً أكثر صحة ووعياً، فعلينا أن نعلم أبناءنا أن أفكارهم ليست قدراً مكتوباً، بل مساراً يمكن تغييره بوعي وممارسة. وهنا يكمن سر العلاج المعرفي السلوكي: تحرر عبر إعادة ترتيب الأفكار وإعادة كتابة الرواية الشخصية.