الصحة النفسية: مدخل إلى النظريات الكلاسيكية والحديثة وحكاية من الواقع السعودي
يشرح هذا المقال أساسيات الصحة النفسية ويستعرض أهم النظريات النفسية والعلماء كما يقدم دراسة حالة واقعية من المجتمع السعودي.

الصحة النفسية هي جزء لا يتجزأ من صحة الإنسان العامة، فهي توازن بين المشاعر والأفكار والسلوك يسمح للفرد بأن يعيش حياته بسلام وإنتاجية. منذ العصور الأولى حاول العلماء فهم ما يجعل الإنسان متزنًا عقليًا، فظهرت نظريات عديدة تفسر السلوك البشري ومصادر مشكلات الصحة النفسية. ومن بين الرواد الذين أسهموا في هذا المجال الطبيب النمساوي سيغموند فرويد الذي أسس التحليل النفسي واعتبر أن صراعات اللاوعي والطفولة هي سبب كبير للاضطرابات. وبعده جاء كارل يونغ بنظرية النفس الجمعية، ثم تطورت العلوم مع ظهور مدارس السلوكية التي ركزت على دور البيئة والتعلم في تشكيل الشخصية مثل تجارب إيفان بافلوف وجون واتسون. في القرن العشرين ظهرت المقاربات الإنسانية التي يقودها أبراهام ماسلو وكارل روجرز، وجعلت تحقيق الذات وتقدير القيمة الإنسانية عنصرًا أساسيًا للصحة النفسية. ثم جاءت المدرسة المعرفية السلوكية مع آرون بيك وألبرت بندورا فجمعت بين التفكير والسلوك، وأكدت أن تغيير الأفكار يساعد على تغيير المشاعر والسلوك.
يعرف علماء النفس اليوم الصحة النفسية بأنها حالة من الرفاهية يحقق فيها الفرد إمكاناته، ويتكيف مع ضغوط الحياة العادية، ويعمل بشكل منتج ويساهم في مجتمعه. هذه النظرة الشاملة تضع المسؤولية على الفرد والمجتمع والدولة لتعزيز الصحة النفسية من خلال بيئة داعمة وتعليم نفسي وثقافة تحترم التنوع. في المملكة العربية السعودية، يشهد الوعي بالصحة النفسية نموًا متسارعًا مع برامج وطنية وحملات توعوية، ولكن بعض التحديات مثل الوصمة الاجتماعية وعدم وجود مصادر كافية لا تزال قائمة. يهتم هذا المقال بتسليط الضوء على أهمية فهم النظريات النفسية عند قراءة أو سماع قصص عن المشكلات النفسية كي نعرف أن وراء كل اضطراب رحلة إنسانية معقدة تتقاطع فيها الوراثة والبيئة والقيم الثقافية.
ومن الضروري أن ندرك أن المفاهيم النفسية ليست بعيدة عنا كقراء، بل تمس حياتنا اليومية في العمل والعلاقات والتعليم. عندما نفهم أساسيات علم النفس، نصبح أكثر قدرة على التعاطف مع الآخرين ومع أنفسنا، ونستطيع طلب المساعدة عند الحاجة. وقد نلاحظ مثلًا كيف يؤثر الشعور بالمسؤولية والالتزام الديني في المجتمع السعودي على قدرة الفرد على تخطي الأزمات، أو كيف تساعد ممارسة التأمل والصلاة على تهدئة العقل. إن احترام خصوصية كل فرد ومعرفة أنه لا يوجد علاج واحد مناسب للجميع هو جزء من الحكمة التي تعلمناها من العلماء المعاصرين مثل مارتن سليغمان وروح علم النفس الإيجابي الذي يركز على بناء نقاط القوة والرفاهية بدلاً من التركيز فقط على التشخيص.
بهذا المدخل نفهم أن الصحة النفسية هي عملية مستمرة تحتاج إلى وعي وثقافة، كما تحتاج إلى فهم جذور النظريات حتى نستطيع تفسير السلوك والبحث عن الحلول المناسبة.
في إحدى المدن السعودية كانت "سارة" (اسم مستعار لامرأة في الثلاثينات) تعيش حياة هادئة مع أسرتها. فجأة بدأت تشعر بقلق شديد وأرق يمنعها من النوم، وكانت أفكارها تسيطر عليها خوفًا من الفشل في عملها وخوفًا من نظرة المجتمع. حاولت سارة تجاهل هذه المشاعر وتعاملت معها بأنها مجرد ضعف في الإيمان، لكن الأعراض تفاقمت حتى أصبحت تعاني من نوبات هلع وتجنب اللقاءات الاجتماعية. في هذه المرحلة قررت أسرتها مساعدتها وتشجيعها على استشارة اختصاصي صحة نفسية في أحد المراكز المتخصصة في الرياض. خلال جلسات العلاج، استخدم الأخصائي مزيجًا من الأساليب المعرفية السلوكية التي تركز على تعديل التفكير السلبي وتدريب الاسترخاء، إلى جانب احترام القيم الدينية والثقافية التي تهم سارة وأسرتها.
في البداية تعلمت سارة كيفية تحديد الأفكار غير المنطقية التي كانت تعيقها مثل "يجب أن أكون كاملة دائمًا" أو "إذا أخطأت سيحكم عليّ الآخرون". ثم عملت مع الأخصائي على استبدال هذه الأفكار بأفكار أكثر واقعية ورحمة بالنفس، مثل "الخطأ جزء من التعلم" و"رأيي في نفسي أهم من رأي الآخرين". كما مارست تمارين التنفس العميق والتأمل الذي يقترب في جوهره من الخشوع في الصلاة، مما ساعدها على تهدئة جسدها وذهنها. وكان للاجتماعات العائلية الداعمة دور كبير في تعزيز شعورها بالأمان والتقدير.
بعد عدة أشهر بدأت سارة تلاحظ تحسنًا ملحوظًا في مستوى القلق والقدرة على النوم، وعادت تدريجيًا إلى نشاطها الاجتماعي، لكنها ظلت ملتزمة بمراجعات دورية مع الأخصائي للحفاظ على تقدمها. لقد استفادت من علم النفس الإيجابي في التركيز على نقاط قوتها وشكر النعم اليومية، كما أطلعت على قصص نجاح لأشخاص مروا بتجارب مشابهة مما ألهمها الاستمرار. هذه الحالة توضح كيف يمكن للتدخل المبكر والدعم الأسري أن يغير مسار الحالة النفسية ويعيد للفرد إحساسه بالسيطرة على حياته.
إن دراسة حالة سارة تذكرنا أن الصحة النفسية ليست رفاهية، بل ضرورة لكل فرد كي يعيش حياة متوازنة. في المجتمع السعودي، حيث تتشابك التقاليد والدين والقيم، يمكن تطبيق النظريات النفسية بمرونة واحترام للخصوصيات الثقفية. عندما ندعم بعضنا البعض ونتحدث بصراحة عن التحديات النفسية ونستفيد من جهود العلماء مثل آرون بيك وألبرت إليس في العلاج المعرفي السلوكي، سنجد أننا نبني مجتمعًا أكثر رحمة وقوة. إن المعرفة العلمية المقترنة بالقيم الإنسانية هي الطريق نحو رفاهية نفسية مستدامة.