علم النفس الإيجابي: بناء الرفاهية والسعادة في المجتمع السعودي

يستعرض هذا المقال نشأة علم النفس الإيجابي وأهم مبادئه والعلماء الذين أسسوه، ويبين كيف يمكن تطبيقه لبناء الصحة النفسية والرفاهية في المجتمع السعودي من خلال دراسة حالة واقعية.

علم النفس الإيجابي: بناء الرفاهية والسعادة في المجتمع السعودي
اكتشف علم النفس الإيجابي وأساسياته وكيف يسهم في تعزيز الرفاهية في المجتمع السعودي


علم النفس الإيجابي هو فرع حديث من علم النفس يهدف إلى دراسة مقومات السعادة والرفاهية ونقاط القوة البشرية، بدلاً من التركيز فقط على الأمراض والاضطرابات. بدأ هذا المجال في أواخر التسعينيات عندما نادى عالم النفس الأمريكي مارتن سليجمان، الذي كان يعمل على نظرية العجز المكتسب، بضرورة تحويل اهتمام علم النفس نحو ما يجعل الحياة جديرة بالعيش. بالتعاون مع الباحث الهنغاري ميهالي تشيكسينتميهالي، صاحب مفهوم التدفق، أسس سليجمان حركة علم النفس الإيجابي التي اعتبرت أن الصحة النفسية لا تعني غياب المرض فحسب، بل وجود حالات إيجابية مثل المعنى، والإنجاز، والعلاقات الداعمة. ومن النماذج الشهيرة في هذا الحقل نموذج PERMA الذي يضم خمسة عناصر للرفاهية: المشاعر الإيجابية، والانخراط أو التدفق، والعلاقات الإيجابية، والمعنى، والإنجاز.

من العلماء البارزين أيضًا في هذا المجال كارول ريف التي طورت مفهوم الرفاهية النفسية متعدد الأبعاد، وسونيا ليوبوميرسكي التي درست تأثير الأفعال اليومية مثل الامتنان والتفاؤل على مستويات السعادة. وتظهر الأبحاث أن ممارسة الامتنان، وتأطير الأحداث الصعبة بطريقة إيجابية، والاستثمار في العلاقات الاجتماعية كلها تساهم في تحسين الصحة النفسية وتقليل التوتر. يفيد علم النفس الإيجابي بأن السعادة ليست حالة ثابتة بل مهارة يمكن تعلمها وتعزيزها من خلال التمارين الذهنية والسلوكية. وهذا يتماشى مع القيم الإسلامية والثقافة السعودية التي تحث على التفاؤل والإحسان وشكر النعم.

في المملكة العربية السعودية، ارتفعت في السنوات الأخيرة برامج تعزز جودة الحياة والرفاهية ضمن رؤية المملكة 2030. وقد أطلقت وزارة الصحة وهيئة الصحة العامة مبادرات للتوعية بأهمية العافية النفسية وأثرها في الإنتاجية المجتمعية. كما أن أنشطة المدارس والجامعات بدأت تشمل ورش عمل حول الذكاء العاطفي وتعليم الطلاب مهارات التأمل والشكر. ويؤكد المتخصصون أن دمج مبادئ علم النفس الإيجابي في التربية والعمل يمكن أن يساعد على تخفيف الضغوط وتطوير قدرات الشباب. فعلى سبيل المثال، تشجع بعض المدارس الطلاب على كتابة مذكرات الامتنان، أو إقامة مشروعات خدمة مجتمعية تعزز الشعور بالمعنى والانتماء.

إن فهم علم النفس الإيجابي يمنحنا إطارًا علميًا يربط بين البحث الأكاديمي والقيم المحلية. فممارسة العادات الإيجابية مثل الامتنان واللطف ليست جديدة على مجتمعنا؛ لكنها أصبحت الآن مدعومة بالأدلة العلمية. حين نقوم بتطوير نقاط قوتنا ونتعاطف مع أنفسنا والآخرين، نصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات وتقديم صورة إيجابية عن الصحة النفسية.

لنرى كيف يمكن لهذه المفاهيم أن تطبق في الحياة العملية، لنقرأ قصة "نورة" (اسم مستعار لمعلمة سعودية في الأربعينات من عمرها) التي كانت تعاني من ضغوط العمل والشعور بالإرهاق. كانت نورة تعمل ساعات طويلة في مدرسة ابتدائية، وتجد نفسها تركز على ما ينقصها أو ما لم تنجزه. كان ذلك يؤثر على مزاجها وعلاقتها بعائلتها، وأحيانًا تشعر بأنها غير مقدرة على الرغم من تفانيها. بعد حضور دورة تدريبية عن علم النفس الإيجابي في مركز تابع لوزارة التعليم، بدأت نورة في تطبيق بعض الأساليب التي تعلمتها بشكل يومي.

أول خطوة كانت كتابة ثلاث أشياء تشعر بالامتنان لها كل مساء، مثل لحظة ضحك مع طالب أو مساعدة أحد الزملاء لها. كما بدأت بتدوين نقاط قوتها الشخصية، مثل التعاطف والصبر، واستخدمتها في أعمالها؛ فبدلاً من التركيز على صعوبة التعامل مع طالب صعب، كانت تتذكر أنها قادرة على الاستماع بإيجابية وإيجاد حلول إبداعية. إحدى التقنيات الأخرى التي اعتمدتها هي ممارسة التأمل الواعي لمدة عشر دقائق قبل بدء يومها، متأملة في نصوص دينية تحفز على التفاؤل. أيضا، أخذت نورة على عاتقها بناء علاقات إيجابية داخل المدرسة، فأنشأت جلسات أسبوعية مع الزملاء لمشاركة النجاحات الصغيرة وتشجيع بعضهم البعض.

مع مرور الوقت، لاحظت نورة تغييرًا واضحًا في نظرتها للحياة والعمل. بدأت تشعر بالمزيد من الطاقة والحماس، وانخفض مستوى التوتر، كما تحسنت علاقاتها مع أسرتها لأنها أصبحت أكثر توازنًا في إدارة وقتها. طلابها لاحظوا ابتسامتها المتجددة وتشجيعها لهم، مما رفع من تحصيلهم الدراسي. في إحدى المقابلات مع زميلاتها، ذكرت نورة أن تبني التفكير الإيجابي لا يعني تجاهل التحديات، بل أن يرى الإنسان الجانب المشرق في رحلته ويثق بقدرته على التغيير. وأضافت أن دمج هذه التقنيات مع قيمها الدينية جعلها تشعر بمزيد من الانسجام الداخلي.

إن تجربة نورة تؤكد أن علم النفس الإيجابي ليس مجرد نظريات، بل أدوات عملية يمكن للجميع تطبيقها لتحسين صحتهم النفسية. في المجتمع السعودي، حيث تشكل العلاقات العائلية والدينية محور الحياة، يمكن لمبادئ مثل الامتنان واللطف والبحث عن المعنى أن تعزز الانسجام والرفاهية. عندما نشارك هذه القصص ونتعلم من العلماء مثل مارتن سليجمان وميهالي تشيكسينتميهالي، نبني مجتمعًا واعيًا يعتز بصحته النفسية ويعمل بجد لجعل السعادة جزءًا من الثقافة اليومية.