المعاناة والوجود الإنساني: بين الزمن، الموت، وصنع المعن
المعاناة الوجودية ليست مجرد شعور عابر، بل تجربة إنسانية عميقة تكشف هشاشتنا أمام الزمن والموت، وتفتح باب الأسئلة حول المعنى والغاية. هذا المقال يقدّم تحليلًا فلسفيًا ثريًا يربط بين أفكار كيركغارد، كونديرا، وبوكوفسكي، ليعيد طرح السؤال الأبدي: كيف نصنع معنى في عالم يفيض باللاجدوى؟
منذ أن وعى الإنسان ذاته وهو يواجه ثلاث حقائق كبرى لا فكاك منها: المعاناة التي تنبع من صراعه الداخلي، الزمن الذي ينساب بلا عودة، والموت الذي يقف في نهاية الدرب كحقيقة مطلقة. هذه الثلاثية ليست مجرد أحداث عارضة، بل هي البنية العميقة التي تشكل جوهر التجربة الإنسانية.
المعاناة ليست حدثًا طارئًا، بل نافذة تطل منها الروح على هشاشتها، وتُسائل نفسها عن هويتها وغايتها. والزمن ليس مجرد تقويم نقلب صفحاته، بل نهر جارف يبتلع لحظاتنا ويمنعنا من التراجع أو إعادة الاختيار. أما الموت، فهو الحقيقة التي تُسدل الستار على المسرحية، وتمنح كل مشهد من مشاهد الحياة وزنه الذي لا يُحتمل.
وفي قلب هذه المعضلة، يقف الإنسان متسائلًا: كيف يمكن أن نحيا حياة ذات معنى في عالم يبدو صامتًا أمام أسئلتنا؟ كيف نحول القلق إلى وعي، واليأس إلى فعل، والمعاناة إلى طاقة لصنع المعنى؟ هنا تتجلى الفلسفة الوجودية، ليس كأجوبة جاهزة، بل كرحلة فكرية تُعيد صياغة علاقتنا بأنفسنا، وبالزمن، وبالموت.
المحور الأول: المعاناة كمرآة للإنسان والبحث عن الذات
منذ فجر الفلسفة، كان الألم والمعاناة هما الثابت الأكثر رسوخًا في حياة الإنسان. فالمعاناة ليست مجرد شعور عابر يزورنا ثم يرحل، بل هي التجربة التي تخلع عنّا أقنعة العيش السطحي، وتضعنا أمام مرآة الحقيقة الصافية. إنها تلك اللحظة التي يتهاوى فيها صخب العالم الخارجي، لنجد أنفسنا عالقين بين سؤالين متناقضين: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟
لقد أدرك الفلاسفة أن المعاناة تحمل في جوهرها بعدًا معرفيًا. فـ سقراط كان يرى أن الألم يعيد تشكيل وعينا، لأنه يدفعنا للتفكر فيما وراء الظاهر. ومع مرور الزمن، جاء كيركغارد ليؤكد أن القلق والمعاناة هما الشرارة الأولى للوعي الوجودي. يقول: "القلق هو دوار الحرية." أي أن الإنسان حين يعي حريته المطلقة، ويُدرك مسؤوليته عن اختياراته، يسقط في بئر القلق، ومنه يبدأ مسار معرفة الذات.
إننا نفرّق هنا بين الألم العرضي الذي قد ينشأ من مرض أو خسارة، وبين المعاناة الوجودية التي تترسخ في عمق النفس. هذه الأخيرة ليست شيئًا يمكن أن نتجاوزه بالعلاج أو النسيان، بل هي صراع دائم بين رغبتنا في المعنى وصمت الكون. فالمعاناة تضعنا أمام فجوة هائلة بين أحلامنا ومحدودية وجودنا، وتدعونا لصياغة علاقتنا بذواتنا وبالعالم من جديد.
إنها، بعبارة أخرى، ليست عدوًا يجب الهروب منه، بل مدرسة وجودية، نكتشف فيها هشاشتنا وفي الوقت نفسه قدرتنا على النهوض من تحت الرماد. وربما لهذا السبب قال نيتشه عبارته الشهيرة: "ما لا يقتلني يجعلني أقوى."
المحور الثاني: الزمن والموت — ثقل الوجود الذي لا يُحتمل
إذا كانت المعاناة هي الوجه الداخلي لتجربتنا الإنسانية، فإن الزمن والموت هما السقف الذي يحدد ملامح هذه التجربة. فنحن محكومون بالزمن، نتحرك في خط واحد لا عودة فيه، وندرك في أعماقنا أن نهايتنا حتمية لا مفر منها.
لقد عبّر ميلان كونديرا عن هذا المأزق بعمق حين كتب في خفة الكائن التي لا تحتمل: "الحياة البشرية تحدث مرة واحدة فقط، ولا نستطيع تحديد أي قراراتنا صائبة أو خاطئة؛ فلا حياة ثانية للمقارنة." هذه الحقيقة تجعل كل لحظة أثقل مما نتصور، وتجعل القلق رفيقًا دائمًا لنا، لأننا ندرك أن كل خطوة لا يمكن التراجع عنها.
ثم يأتي الموت ليضع حدًا صارمًا لوجودنا. فهو الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، والقدر الذي لا يُؤجل. لقد قال تشارلز بوكوفسكي بسخرية مرة: "سوف نموت جميعًا، كلنا، يا له من سيرك!"، بينما وصف جيمس بالدوين الحياة بأنها مأساة لأنها تنتهي حتمًا، وكل شروق شمس يقربنا من الغروب الأخير.
أما مارتن هايدغر، فقد جعل من الموت محورًا لفلسفته الوجودية، معتبرًا أنه ليس مجرد حدث في نهاية الحياة، بل هو الحقيقة التي تشكل طبيعة وجودنا منذ البداية. أن نعيش يعني أن نكون متجهين دائمًا نحو موتنا، وأن نستحضر هذه الحقيقة في كل قرار نتخذه.
إن إدراك الموت لا يقود بالضرورة إلى اليأس، بل يمكن أن يكون مصدرًا للقوة. فهو ما يمنح كل لحظة معناها، ويجعل من الحياة تجربة ثمينة لا تُقدّر بثمن. في ضوء الموت، نصبح أكثر وعيًا بعلاقاتنا، واختياراتنا، وبالوقت القصير الذي نملكه لنترك أثرًا قبل أن نصمت إلى الأبد.
المحور الثالث: صنع المعنى في عالم بلا أجوبة
لكن يبقى السؤال: إذا كانت المعاناة قدرًا، والزمن يطوي أيامنا بلا هوادة، والموت ينتظرنا في نهاية الطريق، فكيف نصنع لحياتنا معنى؟
أجاب الوجوديون بأن المعنى لا يُعطى لنا من الخارج، بل نصنعه نحن بأنفسنا. جان بول سارتر رأى أن الإنسان "محكوم عليه بالحرية"، أي أنه لا يملك خيارًا سوى أن يختار، وأن يحدد قيمه بنفسه. أما ألبير كامو، فقد ذهب أبعد، مؤكدًا أن عبثية الحياة لا تعني الاستسلام، بل التمرد الخلّاق. ففي كتابه أسطورة سيزيف، كتب: "علينا أن نتخيل سيزيف سعيدًا."، أي أن الاعتراف بالعبث يمنحنا حرية تحويله إلى فعل ومعنى.
لكن هناك بعدًا آخر للمعنى، يتجلى في العلاقة مع الآخرين. فالمعاناة التي نتشاركها معًا يمكن أن تتحول إلى جسر يربطنا، ويجعل من الألم المشترك فرصة للرحمة والتواصل. هنا، تتحول الوحدة الوجودية إلى تضامن إنساني، ويتحول القلق إلى طاقة للتغيير المشترك.
وفي الوقت نفسه، تمنح الأديان أفقًا مختلفًا. ففي المنظور الإسلامي، الغاية من الوجود واضحة: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون."، وهو ما يمنح الإنسان يقينًا يتجاوز عبثية العالم، ويحوّل المعاناة إلى اختبار يثقل الروح، لكنه يفتح لها بابًا للسمو والخلود.
إن الإنسان، في نهاية المطاف، ليس مجرد كائن تائه في كون بلا معنى، بل هو كائن قادر على أن يصنع المعنى عبر أفعاله، وعلاقاته، وإيمانه. المعاناة ستظل جزءًا لا يتجزأ من وجوده، والزمن سيظل يسير بلا توقف، والموت سيظل النهاية المحتومة، لكن كل ذلك لا يلغي إمكانية أن نحيا حياة أصيلة، مليئة بالوعي، والتجربة، والحب، والخلق.
في نهاية المطاف، لسنا أمام معركة معزولة ضد الألم أو الزمن أو الموت، بل أمام مواجهة مع حقيقتنا الإنسانية نفسها. إن الوعي بالمعاناة لا يعني الاستسلام لها، بل إدراك أنها جسر يعبر بنا نحو فهم أعمق لذواتنا. والزمن، رغم قسوته، هو الإطار الذي يمنح للحظة معناها، ويجعل من كل قرار فعلًا فريدًا لا يتكرر. أما الموت، فبدل أن يكون نهاية عبثية، يمكن أن يكون مذكّرًا دائمًا بضرورة أن نحيا بكثافة، وأن نُغني أيامنا بالمعنى قبل أن تنطفئ شمعتنا.
هكذا، تكشف الفلسفة الوجودية أن المعاناة ليست نقيض الحياة، بل شرطها الخفي؛ وأن البحث عن المعنى لا يكون في إنكار قسوة الوجود، بل في قبوله وتجاوزه عبر صنع المعنى مع الآخرين. فما يجمعنا كبشر ليس انتصاراتنا العابرة، بل وحدتنا في مواجهة اللامعنى، وقدرتنا على تحويل القلق إلى إبداع، واليأس إلى التزام بالحياة.






