علم النفس الإنساني: نظرية كارل روجرز وأثرها على الصحة النفسية في المجتمع السعودي

يستعرض هذا المقال نظرية كارل روجرز في علم النفس الإنساني وأهميتها في تعزيز الصحة النفسية لدى الأفراد، مع تسليط الضوء على تطبيقاتها في المجتمع السعودي.

علم النفس الإنساني: نظرية كارل روجرز وأثرها على الصحة النفسية في المجتمع السعودي
تعرف على نظرية كارل روجرز في علم النفس الإنساني وتأثير تقدير الذات على الصحة النفسية في المجتمع السعودي


علم النفس الإنساني هو أحد التيارات الرئيسة التي ظهرت في منتصف القرن العشرين كردة فعل على النزعة السلوكية والنظريات التحليلية التي بالغت في التركيز على العوامل البيولوجية أو التعلمية. يرى العلماء في هذا التيار، مثل كارل روجرز وأبراهام ماسلو، أن لكل إنسان القدرة على النمو والتطور وأنه يمتلك ميلاً طبيعياً لتحقيق ذاته وتطوير إمكاناته. يركز روجرز في نظريته المعروفة باسم "العلاج المتمركز حول الشخص" على ثلاثة عناصر أساسية هي التقبل غير المشروط، والتعاطف، والصدق، ويرى أن توافر هذه العناصر في علاقة الإنسان مع الآخرين يساعده على اكتشاف نفسه وتقديرها وإزالة الدفاعات النفسية التي تعيقه عن النمو.

إضافة إلى ذلك يؤكد روجرز على مفهوم الذات وكيف يتكون من خلال التجارب الشخصية والتفاعل مع البيئة الاجتماعية؛ فحين يحصل الشخص على قبول ودعم غير مشروطين من محيطه، خاصة من الأسرة والمجتمع، يكون أكثر قدرة على تطوير مفهوم ذات إيجابي، مما يجعله أكثر تمكيناً في مواجهة الضغوط والتحديات. في السياق السعودي، حيث تحتل الأسرة والروابط الاجتماعية مكانة مركزية، يمكن أن يسهم تبني مبادئ علم النفس الإنساني في تعزيز الصحة النفسية للمجتمع بأسره. عندما يشعر الفرد بأن عائلته تتقبله وتمنحه الثقة، ينمو احترامه لذاته ويصبح أكثر قدرة على اتخاذ قرارات صحية تعكس قيمه وأهدافه. كما أن المؤسسات التعليمية والعملية التي تعتمد التقبل والتشجيع تعزز من دافعية الأفراد للعمل والإبداع. هذه النظرة المتوازنة للإنسان تساعد على بناء مجتمع صحي نفسياً يحترم الاختلافات ويحتفي بالقدرات الفردية، وهو ما نحتاجه في مواجهة تحديات العصر والتحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها المجتمع السعودي اليوم.

وبالنظر إلى تأثير روجرز في تطوير العلاج النفسي، نجد أنه يرى المعالج ليس موجهاً أو خبيراً بقدر ما هو مستمع متفهم يوفر بيئة آمنة للعميل ليبوح بما في داخله ويعيد صياغة تجاربه. بهذه الطريقة، يتعلم الأفراد كيفية التعبير عن مشاعرهم الحقيقية واتخاذ قراراتهم بناءً على قناعاتهم الشخصية، لا على توقعات الآخرين. كما قدم روجرز نموذجاً عملياً للعلاقات الإنسانية في المدارس والمؤسسات يدعو فيه إلى إشراك الطلاب والموظفين في صنع القرارات واحترام احتياجاتهم وآرائهم. هذا النموذج يمكن أن يطبق في المدارس السعودية لتعزيز المشاركة الطلابية وتشجيع الحوار المفتوح بين المعلمين والطلاب، ما يسهم في بناء بيئة تعليمية قائمة على الاحترام والثقة. في النهاية، يعزز علم النفس الإنساني رؤية شاملة لصحة الإنسان النفسية تؤكد قيم الكرامة والحرية والمسؤولية الفردية، وتدعو إلى احترام التنوع الثقافي والاجتماعي، وهو ما يجعله مناسباً للتطبيق في ثقافتنا المحلية إذا تم مواءمته مع قيمنا وعاداتنا.

لا تكتمل الصورة من دون مثال واقعي يوضح كيف يمكن لمبادئ علم النفس الإنساني أن تُحدث تغييراً إيجابياً في حياة الأفراد. لنأخذ قصة "فاطمة"، وهي معلمة في إحدى مدارس الرياض، كانت تعاني منذ سنوات من شعور دائم بعدم الكفاءة وتردد في التعبير عن آرائها، بسبب نشأتها في بيئة صارمة لا تحتمل الخطأ وتنتقد بشدة. كانت فاطمة تعمل بجد وتحقق نتائج جيدة، لكنها تعتقد دائماً أنها ليست كافية، وكان هذا الشعور ينعكس على قدرتها على التفاعل مع طلابها ويجعلها متوترة في الاجتماعات المهنية. عندما قررت فاطمة طلب المساعدة، توجهت إلى أخصائية نفسية تبنت منهج روجرز في العلاج. في الجلسات الأولى، استمعت الأخصائية إليها دون إصدار أحكام، وعبرت عن تعاطفها مع تجارب فاطمة ومعاناتها. ولم تقدم نصائح مباشرة، بل شجعت فاطمة على استكشاف مشاعرها وفهم مصادر الضغوط التي تواجهها. تدريجياً، بدأت فاطمة ترى كيف أن النقد الذي تعرضت له في طفولتها أصبح جزءاً من صوت داخلي يمنعها من تقدير إنجازاتها. ومع مرور الوقت، تعلمت فاطمة أن تمنح نفسها الحب والقبول اللذين كانت تفتقدهما، وأن ترى قيمتها من خلال عينيها لا من خلال عيون الآخرين.

كما شجعتها المعالجة على التحدث مع أفراد عائلتها حول مشاعرها بدلاً من كبتها، وساعدتها على بناء شبكة دعم من زميلات وأصدقاء تثق بهم. في إحدى الجلسات، تحدثت فاطمة عن تجربة إيجابية في الفصل عندما استخدمت أسلوب التقبل والاحترام مع طالبة خجولة، ولاحظت كيف تغير سلوك الطالبة وتطور أداءها. أدركت فاطمة أن ما تحتاجه طالباتها هو نفس ما تحتاجه هي، بيئة داعمة تشعر فيها بالأمان وتسمح لها بالنمو. مع نهاية البرنامج العلاجي، كانت فاطمة أكثر قدرة على التعبير عن احتياجاتها في المنزل والعمل، وأصبحت أكثر نشاطاً في الاجتماعات، كما بدأت تشارك في دورات تطوير مهني كانت تخشى المشاركة فيها سابقاً. انعكس هذا التغيير على علاقتها بطالباتها اللاتي أصبحن أكثر تفاعلاً وثقة بأنفسهن. يعكس هذا المثال كيف يمكن لمبادئ علم النفس الإنساني – مثل التقبل غير المشروط واحترام الذات – أن تساعد الأفراد في مجتمعنا على تخطي معوقات قديمة وبناء حياة أكثر توازناً ورفاهية نفسية. وهذا يبين أن تعزيز الصحة النفسية ليس فقط مسؤولية الفرد، بل يتطلب أيضاً توافر بيئات أسرية وتعليمية ومهنية تدعم الإنسان وتؤمن بقدرته على التغيير والنمو.