العلاج بالقبول والالتزام: تحرير الذات عبر العيش وفق القيم

يستعرض هذا المقال جوهر العلاج بالقبول والالتزام، وكيف يساعد على تعزيز المرونة النفسية عبر قبول المشاعر والتركيز على القيم وتحويل الألم إلى قوة.

العلاج بالقبول والالتزام: تحرير الذات عبر العيش وفق القيم
مقال يوضح مفهوم العلاج بالقبول والالتزام ويبرز أهمية القبول والالتزام بالقيم في تعزيز المرونة النفسية والصحة العقلية


حين كان العالم منشغلاً بنماذج العلاج السلوكي والمعرفي التقليدية التي تحاول تغيير أفكارنا أو تصحيح معتقداتنا، ظهر أستاذ علم النفس الأميركي ستيفن سي. هايز مع زملائه في ثمانينيات القرن الماضي وطرح سؤالاً أشد راديكالية: ماذا لو كان الطريق إلى الصحة النفسية ليس في محاربة الألم، بل في استقباله مثل ضيف عابر؟ هكذا ولدت نظرية "العلاج بالقبول والالتزام" (ACT)، التي تمزج بين فلسفة الشرق الأقصى والعلوم السلوكية الحديثة، لتقترح أن سر التحرر يكمن في مرونة نفسية تسمح لنا بعيش قيمنا حتى وسط المعاناة.

في قلب هذا النموذج يقف مفهوم "القبول": ليس الاستسلام ولا اللامبالاة، بل التوقف عن المقاومة الداخلية المرهقة لما لا يمكن تغييره. عندما نرفض مشاعر القلق أو الحزن، فإننا نضيف لها طبقة أخرى من المعاناة. أما القبول فمثله مثل مراقب يمشي في حديقة ويتفكر في الغيوم العابرة؛ يعترف بوجودها ولكنه لا يحاول دفعها بعيداً. هذا المنظور ينتقل بنا من صراع لا ينتهي مع أفكارنا إلى علاقة مراقبة هادئة. ويأتي دور "التباعد المعرفي" ليجعلنا نرى أفكارنا على أنها كلمات عابرة لا أوامر مقدسة؛ فالفكرة "أنا فاشل" ليست حقيقة مطلقة، بل جملة يمكن تركها تمر مثل ورقة على سطح نهر.

في موازاة ذلك، يدعو ACT إلى العودة إلى اللحظة الحاضرة، لأن القلق يعيش في المستقبل والاكتئاب يسكن الماضي. عندما نصغي إلى أنفاسنا أو ننتبه إلى صوت الريح، نتحرر من السجن الزمني ونستعيد القدرة على الاختيار. في هذا المكان تتشكل هوية جديدة "الذات كالسياق" – الذات التي تلاحظ كل التجارب دون أن تذوب فيها. هذه الهوية ليست الأفكار ولا المشاعر ولا الجسد، بل الوعي الذي يضم كل ذلك ويتيح له أن يتغير دون أن يتكسر.

لكن ACT لا يكتفي بالتأمل؛ بل يربط القبول بالتزام واضح بالقيم. إذ يفشل الكثيرون في العلاج لأنهم يسعون للراحة فقط، من دون بوصلة أخلاقية تحدد الاتجاه. يسأل المعالج في ACT: ما الذي يجعل حياتك ذات معنى؟ هل تريد أن تكون أباً حاضراً؟ ناشطاً؟ فناناً؟ ثم يترجم تلك القيم إلى أفعال ملموسة تُنفَّذ رغم الألم. هنا ينشأ "العمل الملتزم" الذي يحول المعاناة إلى وقود، وليس عقبة. ويذكرنا هذا بالنصائح العسكرية التي يوردها روبرت غرين في كتبه: في مواجهة العدو الداخلي، لا تفرّ، بل استدر واستعمل طاقته لصالحك.

لقد أثبتت الأبحاث فاعلية العلاج بالقبول والالتزام في معالجة اضطرابات القلق، الاكتئاب، الإدمان وحتى الآلام الجسدية المزمنة. يتعلم الأفراد من خلاله تفكيك دوامة التفكير القهري، وتوسيع قدرتهم على تحمل المشاعر السلبية، والتركيز على ما يملكونه من حرية الاختيار. وفي عالمنا الحديث المليء بالمشتتات والشعور بالضغط لتحقيق النجاح، يقدم ACT مساراً بديلاً لا يعتمد على انكار الواقع بل على العيش معه بانسجام.

إن قصة ACT هي في الحقيقة دعوة لمواجهة الحياة بشجاعة وصدق. فهي تقول لنا إن الألم جزء لا يتجزأ من التجربة البشرية، وإن مطاردته أو محاولة دفنه لن تجلب سوى معاناة إضافية. علينا بدلاً من ذلك أن نتعلم كيف نجلس مع آلامنا، ننظر إليها بفضول، ثم ننهض لنصنع خطوات صغيرة نحو القيم التي تختصر جوهرنا. حينها نصبح مثل السباحين الذين لا يخافون أمواج البحر بل يستخدمون حركتها للوصول إلى الشاطئ.