حين تُصبح المعرفة بلا ثمن: لماذا تفشل العقول في بيئات لا تدفع ثمن المعرفة؟
رغم أن التعليم المجاني يُقدّم كأحد أعمدة العدالة الاجتماعية، إلا أنه في بعض السياقات يتحوّل إلى أداة تعوّد المجتمع على التلقّي دون سعي، ويُضعف قيمة المعرفة حين تُمنح بلا مقابل. هذا المقال يتأمل في المفارقة التي تجعل من المجانية عائقًا خفيًا أمام الفكر المستقل، ويطرح سؤالًا جوهريًا: متى يصبح التعليم خدمة تُستهلك، لا تجربة تُبنى؟

حينما يصبح التعليم المجاني إدمانًا قاتلًا: لماذا تفشل بعض المجتمعات في تجاوز دور المتلقي؟
في عالم مثالي، يُفترض أن يكون التعليم الجامعي المجاني هو القاطرة التي تقود المجتمعات نحو نهضة فكرية، وتكافؤ فرص، وتقدم حضاري غير مسبوق. ولكن الواقع أكثر تعقيدًا، وأكثر قسوة في أحكامه. الدول التي تبنت هذا النموذج باعتباره "حقًا مقدسًا" لشعوبها لم تنجح دائمًا في صناعة مجتمعات ذات وعي عميق، أو إبداع متجدد، أو ثقافة بحث ذاتية تدفع الفرد إلى تطوير نفسه باستمرار وتدعم صناعة المعرفة. بل على العكس، في كثير من الأحيان، أصبح التعليم المجاني عقبة أمام التعلم الحقيقي، وأصبح الطلاب أسرى لنظام يمنحهم المعرفة على طبق من ذهب، لكنه لا يمنحهم مهارات البحث عنها، ولا يدفعهم إلى دفع ثمنها، سواء بالجهد أو بالمال أو بالوقت، مما جعل أغلبهم مجرد مستهلكين للمعرفة، لا منتجين لها.
الفجوة بين التعليم كخدمة والتعليم كقيمة
الخطأ الجوهري في فكرة التعليم المجاني ليس في مبدأ إتاحته للجميع، بل في آلية تقديمه. حينما تتحول الجامعة إلى مؤسسة أشبه بالمؤسسات الخدمية التي تقدم "منتجًا مجانيًا" للجميع، يفقد التعليم معناه الحقيقي، ويتحول إلى مجرد محطة عبور للحصول على شهادة، لا رحلة بحث وتكوين فكري.
التعليم في جوهره ليس مجرد مجموعة من المعلومات تُلقّن للطلاب في قاعات دراسية، بل هو عملية تحول فكري ونضج معرفي، وهذه العملية تتطلب جهدًا شخصيًا، ورغبة ذاتية في التعلّم، والتزامًا مستمرًا بدفع الثمن المعرفي.
لكن ماذا يحدث عندما يكون كل شيء متاحًا دون مقابل؟
المعادلة النفسية هنا معقدة، لكنها واضحة: الإنسان لا يقدّر ما يحصل عليه بسهولة، ولا يُدرك قيمة الشيء إلا عندما يدفع ثمنه. عندما يصبح التعليم متاحًا بلا تكلفة، فإنه يفقد جزءًا من قيمته الجوهرية، ويصبح في نظر الطلاب أمرًا مسلمًا به، لا فرصة يجب اغتنامها، ولا استثمارًا يتطلب منهم جهدًا مضاعفًا. والنتيجة؟ أنظمة أكاديمية مليئة بطلبة غير مهتمين، يبحثون عن الحد الأدنى من المتطلبات لاجتياز الامتحانات، دون أي فضول حقيقي، أو شغف بالتعلم، أو وعي بأهمية ما يدرسون.
لماذا تفقد الجامعات المجانية قدرتها على المنافسة؟
النقطة الأكثر إثارة للجدل هنا أن الجامعات التي تقدم التعليم المجاني غالبًا ما تتأخر في تصنيفات التعليم العالمي. هناك استثناءات بالطبع، ولكن الاتجاه العام يُظهر أن الدول التي تعتمد على التعليم المدفوع تمتلك جامعات تنافس عالميًا، وتستقطب أفضل العقول، بينما تظل الجامعات المجانية متأخرة، غير قادرة على تقديم نموذج تعليمي يعزز الابتكار والبحث والإبداع.
والسبب هنا لا يتعلق فقط بجودة التعليم، بل أيضًا بعقلية الطلاب أنفسهم.
في البيئات التي يكون فيها التعليم مدفوعًا، هناك التزام فردي بالتفوق، لأن الطالب يدرك أنه يستثمر في نفسه، وأن كل ساعة دراسة هي جزء من رأس المال الذي يدفعه ليصنع مستقبله. في المقابل، في البيئات التي يكون فيها التعليم مجانيًا بالكامل، يتحول الأمر إلى "إلزام اجتماعي" أكثر من كونه "فرصة للتعلم"، مما يقلل من الحافز الداخلي للطالب، ويجعل المعرفة مجرد "متطلب دراسي"، لا مشروعًا شخصيًا يضع فيه الفرد كل طاقته.
لكن هل الحل هو إلغاء التعليم المجاني؟
ليس بالضرورة. بل الحل هو إعادة تعريف العلاقة بين الطالب والمعرفة، بحيث لا يكون التعليم مجرد خدمة تُقدَّم، بل مسؤولية يتحملها الفرد، سواء من خلال نظام مالي يربط التعليم بقيمته الفعلية، أو من خلال استراتيجيات تعليمية تعزز ثقافة البحث والتعلم الذاتي، بدلًا من الاعتماد الكلي على المؤسسة الأكاديمية.
إدمان المجانية: لماذا ترفض المجتمعات الاستثمار في التعلم الذاتي؟
إحدى المفارقات المثيرة أن المجتمعات التي تعودت على تلقي التعليم مجانًا غالبًا ما ترفض دفع أي مقابل مالي للتعلم الذاتي لاحقًا. تجد فيها آلاف الخريجين يبحثون عن وظائف، لكنهم يرفضون فكرة حضور دورة تدريبية مدفوعة، أو شراء كتاب، أو حتى الاشتراك في برنامج تعليمي متخصص، لأن عقلية "التعليم المجاني" أصبحت جزءًا من الوعي الجمعي، مما جعل الإنفاق على التعلم يبدو وكأنه "رفاهية غير ضرورية"، بينما في الواقع، هو الاستثمار الأهم في حياة أي إنسان.
وهذا يفسر لماذا يبقى سوق المعرفة في الدول المتقدمة أكثر ازدهارًا، حيث ترى الأشخاص مستعدين لدفع مبالغ طائلة للحصول على المعرفة، لأنهم يدركون قيمتها، بينما في المجتمعات التي تعودت على التعليم المجاني، تتحول المعرفة إلى شيء يُستهلك فقط عندما يكون متاحًا بلا تكلفة، مما يخلق فجوة كبيرة بين المعرفة كحق، والمعرفة كقيمة.
حين يصبح التعليم المجاني عائقًا أمام الفكر المستقل
هناك بُعد فلسفي أعمق لهذه الظاهرة: حين تقدم الدولة كل شيء للمواطن، دون أن تدفعه لتحمل مسؤولية تطوير نفسه، فإنها تخلق مجتمعًا متشابهًا، نمطيًا، يفتقر إلى التفكير النقدي، وغير قادر على البحث عن المعرفة خارج الإطار الرسمي.
الجامعات المجانية – في صيغتها التقليدية – لا تعلم الطلاب كيف يكونون مفكرين مستقلين، بل كيف يكونون جيدين في اجتياز الاختبارات. والفرق بين الاثنين هو ما يصنع الأمم القادرة على قيادة المستقبل، والأمم التي تبقى دائمًا في موقع التبعية الفكرية.
كيف نعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمعرفة؟
الحل ليس في إلغاء التعليم المجاني، ولكن في إعادة تصميم التجربة التعليمية بحيث:
-
يصبح التعلم مسؤولية فردية، وليس مجرد خدمة مقدمة من الدولة.
-
يتم تعزيز ثقافة البحث الذاتي والتعلم المستمر، بدلًا من الاكتفاء بالمقررات الجامعية.
-
يتم تقديم نماذج تمزج بين التعليم المدفوع والمجاني، بحيث يكون هناك مقابل (سواء مالي أو عبر التزامات أخرى) يعزز من قيمة المعرفة.
-
يتم خلق بيئات تنافسية داخل الجامعات، بحيث لا يكون النجاح مجرد نتيجة لحضور المحاضرات، بل لمدى قدرة الطالب على استثمار التعليم في بناء تفكير مستقل.
هل التعليم المجاني هو الحل، أم المشكلة؟
إن تقديم الخدمات الأساسية بشكل مجاني مثل التعليم للمجتمع هو خطوة ضرورية، لكنه ليس الحل النهائي. التحدي الأكبر ليس في إتاحة المعرفة، بل في خلق مجتمعات تدرك قيمتها، وتسعى إليها بوعي ومسؤولية.
التعليم المجاني قد يكون وسيلة للنهوض، لكنه إذا لم يُدار بذكاء، قد يصبح أيضًا وسيلة لإضعاف الفكر، وقتل روح البحث، وصناعة أجيال لا ترى في المعرفة إلا مجرد "خدمة أخرى" تقدمها الدولة، لا مشروعًا شخصيًا يستحق الجهد والتضحية.
في النهاية، المجتمعات التي تصنع التقدم ليست هي التي توفر التعليم بالمجان، بل هي التي تجعل المعرفة ذات قيمة لا تُقدّر بثمن.