الكتابة في رداء الدواء
إن الآلام التي ليس لها مخارجٌ ترتاح بها النفس تعود إلينا بشكل ملتوي في جراح نازفة. لطالما كانت الكتابة وسيلة التعبير الأكثر حرية للكاتب ولمن يقرأ له ويرى انعكاس ذاته عليه. فهناك لحظات يتلعثم بها اللسان ويكتويه سكوت الحرف ومنه يتأتى للقلم ليصرح عن مكنون النفس المكتنز بين ثناياها ويقول ما عجز عن وصفه صوته المثقل. وهكذا تتمثل الكتابة في مفهومها سبيلاً للتنفيس ومنطقة حرة للحديث عما لا نستطيع الخوض فيه علانية.

إن الآلام التي ليس لها مخارجٌ ترتاح بها النفس تعود إلينا بشكل ملتوي في جراح نازفة. لطالما كانت الكتابة وسيلة التعبير الأكثر حرية للكاتب ولمن يقرأ له ويرى انعكاس ذاته عليه. فهناك لحظات يتلعثم بها اللسان ويكتويه سكوت الحرف ومنه يتأتى للقلم ليصرح عن مكنون النفس المكتنز بين ثناياها ويقول ما عجز عن وصفه صوته المثقل. وهكذا تتمثل الكتابة في مفهومها سبيلاً للتنفيس ومنطقة حرة للحديث عما لا نستطيع الخوض فيه علانية.
في وصف هذه الحقائق عن الكتابة يستلهم عالم النفس الأمريكي جيمس بينيباكر، وهو عالم نفس اجتماعي وأستاذ فخري في علم النفس بجامعة تكساس، سبل الإفصاح المتواجدة فيها عن غيرها ويحولها إلى علاج مرحلي يسمح للمريض أخذه أملاً في التشافي، يشير بينيباكر في أبحاثه إلى ضرورة التعافي والتحرر من الصدمات العاطفية لكونها علقة تحوم دون أن تسمح للإنسان أن ينغمس في نشاطاته مفعمًا بالحيوية ونابضًا بالحياة. فيؤكد على أن تكابل هذه الصدمات قد تؤدي إلى أمراض نفسية أو جسدية تودي بصحة الشخص إلى المهالك.
وفي أبحاثٍ له لاقت رواجًا في أوساط التداوي بالفن، برز حديثه عن الكتابة الحرة وتأثيرها العميق في التعافي من الصدمات العاطفية وكيف أن لمثل هذه الممارسة المجدولة فوائد تكمن في تصالح الفرد مع ماضيه المؤلم مما يجعلها قادرة على انتشاله من وعثاء الكبت إلى انفراج الغمة.
إحدى طرق استخدام الكتابة كعلاج للصدمات العاطفية هي الكتابة التعبيرية الحرة على أيام متتالية؛ وهي كالتالي:
- تحديد نصف ساعة يوميًا لمدة ٧- ١٠ أيام متتالية: يركز الشخص فيها هنا على الوقت المحدد بفكر صافي ويستحضر الموقف الذي سبّب له ألمًا في الماضي أو حدثًا محزنًا.
- البدء بالكتابة طوال الأيام المتتالية عن ذات الحدث: مع تكرار الولوج إلى ذاكرة الألم، ستعود به الذكرى إلى أحداث صغيرة ربما لم يذكرها في الجلسات التي سبقت؛ حيث ستفتح له أبوابًا لم يطرقها قط في كتاباته السابقة، وهنا تكمن أهمية أن تتم الكتابة على أيام متتالية وعن حدثٍ واحد.
- لابد من الكتابة على أيام متتالية وألا تقل عن ٧ أيام: قد يصاحب فتح الذكريات المؤلمة هذه وجعًا وتغيرًا على المزاج وتؤثر على نفسية الشخص، إلا أن هذه علامة أكيدة على أن الجراح المفتوحة تنتظر مطهرًا لتطيب. فالواجب ألا يتوقف عند إحساسه بالألم، بل أن يكمل على أن يستفيض من كل ما فيه ويعبر عن نفسه وآلامه بمنتهى الشفافية.
لربما صاحبت فترة العلاج عودة ذكرى لا يطيقها الإنسان أو تجدد آلامًا مضت بمضي زمنها، إلا أن النفس حرة تشتهي حياة لا يكدرها قيد الماضي بأي آلامه مهما صغرت ولا يشقيها تجارب أسقام مهما حُقر وجعها، فيعقد العزم أن يأتي الكتابة حتى تشفى دواخله ويطيب عن نفسه آثار مأساتها الماضية.و كان حقًّا للإنسان أن يعيد لنفسه بناءها كلما اشتدت عليه صدوف الحياة ويصحح منها ما قدر على إصلاحه.
كما أن الكتابة سبيل لتحجيم الألم المنتشر في جسد الإنسان إثر صدماته، فهي في حالها الفسيح تجعل الوجع المستميت شيئًا صغيرًا يمكن وصفه في بضع كلمات وحصرها في كم من الجمل. ولم تكن منافع الكتابة التعبيرية محصورة في حدود الصحة النفسية والصدمات العاطفية. ففي ورقة بحثية نشرتها المجلة الدولية للطب النفسي، قام باحثون بتجربة استخدام الكتابة الحرة على عينة من مرضى السرطان، وما أثار الدهشة أن النتائج كانت إيجابية تبشر عن منافعها في هذا الوسط أيضًا؛ فقد لوحظ على المرضى المعنيين تحسنًا في الصحة البدنية وانحسارًا جزئيًا للألم؛ مما قلل الحاجة لاستخدام خدمات الرعاية الصحية لفترة.
إضافةً إلى ما أسلفنا من تأثير الكتابة على الصحة، فإن الاستمرار على الكتابة يصب في تطوير الحس الكتابي لدى الشخص، ومع ضبط الممارسة، سيلاحظ على نفسه انسيابية الكلمة ووضوح الصورة في أيٍّ مما يكتب. إذًا، لابد أن يعي الإنسان ضرورة التنفيس عن كل ألم، وحقيقة أن الوجع المكبوت قد يكون سبيلًا سهلًا لنقص المناعة والأمراض وتدهور الحالة الصحية، والعكس صحيح في حال التفريغ والتنفيس. وقد نستطيع القول بأن الإنسان قادرٌ على تخطي مصائبه مهما كان حجمها، وأن الحياة في أصلها "حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ" نستطعم لذتها بنفس قوية وروح متعافية متحررة من آلامها ومنفسةً عن ذاتها مطلقة ليدها مهمة التعبير عما يختلجها في كل آن.
الكاتبة: أسماء عبد الله الشهراني
التدقيق والمراجعة: تهاني أحمد بنتن