تأثير الامتنان على الدماغ والصحة النفسية: كيف نحول الشكر إلى أسلوب حياة
يتناول هذا المقال العلاقة بين الامتنان وعلم الأعصاب والصحة النفسية، موضحاً كيف أن ممارسة الامتنان تفعّل مناطق الرضا في الدماغ وتقلل من التوتر والاكتئاب. يستعرض البحث العلمي الذي يربط بين الامتنان وتحسين نوعية النوم وتقوية العلاقات الاجتماعية والصحة البدنية، ويوضح طرقًا عملية لتحويل الشكر إلى عادة يومية، مع إشارة إلى التعاليم الدينية التي تحث على الشكر كطريق لزيادة النعم والشعور بالسكينة.

الامتنان ليس مجرد كلمة تُقال في المناسبات أو مجاملة اجتماعية عابرة، بل هو حالة ذهنية وعاطفية تجعل الإنسان يركّز على النعم الصغيرة والكبيرة في حياته، ويدرك أن ما يملكه من صحة، وأهل، وفرص، ومصادر رزق ليس أمرًا مسلّمًا به.
تشير أبحاث علم الأعصاب الحديثة إلى أن ممارسة الامتنان بانتظام تُحدث تغييرات ملموسة في بنية الدماغ ووظائفه؛ إذ يحفّز الامتنان المناطق المسؤولة عن إفراز الدوبامين والسيروتونين، وهما الناقلان العصبيان المرتبطان بالشعور بالرضا والسكينة.
وقد أظهرت دراسات أُجريت في جامعة كاليفورنيا أن الأشخاص الذين يدوّنون يوميات امتنان بانتظام يتمتعون بمستويات أقل من التوتر والقلق، وأن التفكير الإيجابي قبل النوم يساعد على تحسين جودة النوم وتقليل الأرق. كما يؤكد علماء النفس أن الامتنان يعيد توجيه الانتباه من التركيز على النقص والخسارة إلى الوعي بالوفرة والإنجازات الصغيرة، مما يعزز المرونة العصبية وقدرة الدماغ على التكيف مع الضغوط الحياتية.
ومن المدهش أن أثر الامتنان لا يقتصر على العقل فقط، بل يمتد إلى الجسد أيضًا. فقد بينت دراسات عدة أن الامتنان يُسهم في تحسين صحة القلب عبر خفض ضغط الدم وتقليل الالتهابات المزمنة التي تعدّ أساسًا للعديد من الأمراض. كما أن الشعور الدائم بالامتنان يساعد في تنظيم هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتر، مما يخفف العبء عن الجهاز المناعي ويزيد قدرته على مقاومة العدوى والأمراض.
الامتنان كنهج حياة وعلاقته بالصحة النفسية
عندما يتحول الامتنان إلى عادة ذهنية وسلوكية، يصبح تأثيره أعمق من مجرد شعور عابر، إذ يسهم في بناء رؤية أكثر توازنًا للحياة، ويجعل الإنسان أكثر إدراكًا لعلاقته بالآخرين وقدرته على التعاطف معهم.
تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الممتنين يميلون إلى تبني أنماط حياة صحية مثل ممارسة الرياضة، وتناول الغذاء المتوازن، والنوم الجيد، مما يقلل من احتمالات الإصابة بالاكتئاب والقلق. كما تبيّن أن الامتنان يقلل من مستويات هرمون الكورتيزول، ويعزز المناعة الطبيعية للجسم، في حين يقوي في الجانب الاجتماعي روابط الثقة ويقلل من الصراعات، لأن الشكر المتبادل يعمل كجسر للتفاهم والمودة بين الناس.
ولتحويل الامتنان إلى أسلوب حياة، يقترح الخبراء مجموعة من الممارسات اليومية البسيطة، مثل:
-
كتابة ثلاثة أمور إيجابية حدثت في يومك.
-
توجيه كلمات شكر صادقة لمن حولك.
-
البحث عن الجوانب المضيئة في المواقف الصعبة.
-
تخصيص مفكرة امتنان تسجّل فيها النعم الصغيرة وتعود إليها في لحظات التحدي لتذكّر نفسك بوفرة الخير.
أما من الناحية الروحية، فإن الإسلام يجعل الامتنان عبادة قلبية سامية؛ فقد قال تعالى: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"، كما أوصى النبي ﷺ بالحمد في كل حال، فالشكر في جوهره ليس فقط تعبيرًا عن الرضا، بل وسيلة لزيادة البركة والطمأنينة.
إلى جانب ذلك، يمكن دمج الامتنان في التأمل الواعي (Mindfulness)، من خلال التركيز على اللحظة الحالية وتقدير التفاصيل البسيطة، أو عبر إعادة صياغة التجارب الصعبة باعتبارها فرصًا للتعلم والنمو. كما يُنصح بممارسة الامتنان التشاركي عبر رسائل أو مكالمات تعبّر فيها عن تقديرك للآخرين، فذلك يغرس فيهم الإحساس نفسه ويخلق حلقة إيجابية من التأثير المتبادل.
الامتنان والمرونة العصبية
يُظهر علم الأعصاب الحديث أن ممارسة الامتنان بانتظام لا تغيّر المزاج فحسب، بل تُعيد تشكيل الدماغ فعليًا من خلال ما يُعرف بـ المرونة العصبية (Neuroplasticity)، أي قدرة الدماغ على بناء وصلات عصبية جديدة استجابةً للتجارب والأفكار المتكررة.
فعندما يركّز الإنسان يوميًا على النعم والتجارب الإيجابية، يبدأ الدماغ بإعادة توجيه دوائر الانتباه والعاطفة نحو الإدراك الإيجابي، مما يقلل من نشاط اللوزة الدماغية المرتبطة بالخوف والقلق، ويزيد من نشاط القشرة الجبهية المسؤولة عن التفكير المتزن واتخاذ القرار.
هذه التحولات العصبية تجعل الامتنان أكثر من مجرد شعور؛ إنه إعادة برمجة بيولوجية تعلّم الدماغ أن يبحث عن الضوء لا عن الظل، وأن يتفاعل مع الضغوط بطريقة أكثر هدوءًا وثقة.
ومن المدهش أن الدراسات تُظهر أن بضع دقائق من كتابة الامتنان يوميًا تكفي لخلق تغييرات قابلة للقياس في نشاط الدماغ بعد أسابيع قليلة، مما يعني أن الامتنان، حين يُمارس بانتظام، يصبح تدريبًا عصبيًا يعزّز الاستقرار النفسي والعاطفي ويقوّي المرونة الذهنية في مواجهة التحديات.
خاتمة
الامتنان ليس رفاهية عاطفية، بل مهارة ذهنية وروحية يمكن تعلّمها وصقلها بمرور الوقت. حين نمارسه بوعي واستمرارية، يتحول إلى عدسة نرى من خلالها العالم، فنكتشف أن السعادة ليست هدفًا نطارده، بل حالة نعيشها عندما ندرك قيمة ما نملك.
وفي عالم مثقل بالضغوط والأخبار السلبية، يصبح الامتنان أداة للحفاظ على الصحة النفسية والتوازن الداخلي، ومنبعًا للقوة والصفاء في رحلة الحياة.