التمويل الإسلامي والتقنية المالية: شراكة من أجل الشمول والاستدامة
مقال يستكشف كيف يمكن للتمويل الإسلامي التقليدي أن يتعاون مع التقنية المالية الحديثة لزيادة الشمول المالي ودعم الاستدامة. يستعرض حجم السوق ومؤشرات النمو والتحديات والفرص ويركز على تجربة إنسانية لرائدة أعمال سعودية.
عالم يتغير بسرعة، تبدو قصة التمويل الإسلامي والتقنية المالية (فينتك) كأنها رحلة بحث عن التوازن بين الأصالة والحداثة. انطلقت الصناعة من جذورها العميقة في العدالة وتقاسم المخاطر، وتطورت لتصبح اليوم منظومة مالية تصل أصولها إلى نحو 4.9 تريليون دولار بعد نمو سنوي بأكثر من 11٪ في عام 2023. هذا النمو لم يكن صدفة؛ فالمؤسسات والمشرّعون والمجتمعات ينسجون معًا شبكة معقدة من القيم والممارسات، من ماليزيا والسعودية والإمارات التي تتصدر مؤشر تنمية التمويل الإسلامي إلى دول أفريقية وآسيوية بدأت تحقق خطوات واسعة.
ووسط هذا المشهد المتطور، تبرز التقنية المالية كحليف طبيعي. تشير تقارير حديثة إلى أن حجم معاملات الفينتك الإسلامي بلغ حوالي 161 مليار دولار عام 2023/24، ومن المتوقع أن يتضاعف تقريبًا إلى 306 مليارات دولار بحلول 2028 بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 13.6٪. تهيمن السعودية وإيران وماليزيا والإمارات وإندونيسيا وتركيا على هذه السوق المزدهرة، مع تصنيف المملكة ضمن أفضل خمسة أنظمة بيئية ملائمة لنمو الفينتك الإسلامي. هذه الأرقام تعكس تحوّلًا أعمق: الشباب المتعطش للتقنية يبحث عن خدمات مالية شفافة وسهلة الوصول ومتوافقة مع الشريعة، فيما ترد الأسواق بمنتجات متطورة مثل البنوك الرقمية، والمحافظ الإلكترونية، والعملات الرقمية المدعومة بأصول.
خلال عملي كرائدة أعمال وناشطة في حقوق المرأة، أرى في هذه الشراكة فرصة لتحويل الشمول المالي إلى واقع ملموس. أحد أمثلة ذلك مبادرة “STC Bank” في السعودية، وهي إحدى البنوك الرقمية التي توفر خدمات مالية متكاملة عبر تطبيق على الهاتف، مما يجعل فتح الحسابات وتحويل الأموال أمورًا في متناول الجميع. كما أطلقت مؤسسة أرباح كابيتال صندوقًا بقيمة تزيد عن 150 مليون ريال لدعم شركات الفينتك الناشئة بالشراكة مع “فنتاكتكس” و”في كابيتال”، وهو مثال على كيفية تحفيز الابتكار المحلي وتحقيق رؤية 2030. في الوقت نفسه، تتجه دول مثل إيران وباكستان إلى تطوير عملات رقمية للبنوك المركزية متوافقة مع الشريعة، فيما تظهر إصدارات الصكوك الرقمية باستخدام تقنية البلوكتشين لتقليل التكاليف وتعزيز الشفافية.
لكن هذا التحول ليس مجرد أرقام وتقنيات؛ إنه قصة أشخاص يتعلمون كيف يختارون الجرأة على المضي قدمًا رغم التقاليد الراسخة. تحكي إحدى رائدات الأعمال السعوديات، وهي سيدة كانت تدير متجرًا صغيرًا للمنتجات اليدوية، كيف استفادت من منصات التمويل الجماعي المتوافقة مع الشريعة لتوسيع مشروعها. عبر تطبيق بسيط، تمكنت من جمع رأس مال من مستثمرين أفراد يثقون بقصتها ورغبتها في النمو. في المقابل، التزمت بمبدأ المشاركة في الأرباح والخسائر، مما عزز شفافية العلاقة. هذه القصص الصغيرة هي التي تجعل الأرقام الكبيرة ذات معنى.
في مقال نشرته مجلة متخصصة، تم تحديد مجموعة من التحديات التي تواجه الفينتك الإسلامي مثل صعوبة الحصول على رأس مال، والتعقيد التنظيمي، وضعف الوعي لدى العملاء. ومع ذلك، يستمر عدد الشركات الناشئة في الازدياد، مع وجود نحو 490 شركة في قاعدة بيانات التقرير ذاته. وهذا يشير إلى أن التحديات ليست عائقًا بل فرصة لتطوير حلول مبتكرة وعقد شراكات بين الجهات التنظيمية ورواد الأعمال. على سبيل المثال، تعمل مؤسسات رقابية في بنغلاديش وماليزيا على تشديد حوكمة الشريعة، فيما تُعدّل دول أخرى لوائح الصكوك لتعزيز الشفافية.
إن لقاء التمويل الإسلامي بالتقنية المالية يخلق مساحة للحوار بين الأصالة والابتكار. فهو يمكّن النساء والشباب من دخول السوق المالية دون التخلي عن القيم الدينية، ويمنح المستثمرين أدوات لتمويل مشاريع تحقق عائدًا ماليًا وتأثيرًا اجتماعيًا في الوقت نفسه. ومع توسع السوق نحو آفاق جديدة، يصبح دورنا كرواد أعمال هو طرح الأسئلة الجريئة: كيف نضمن أن التقنيات الجديدة تخدم الجميع، وليس نخبة محدودة؟ وكيف نحافظ على نزاهة النظام المالي في ظل المنافسة الشرسة؟
في نهاية المطاف، لا يتعلق النجاح بتبني التقنية فقط، بل بفهم الغاية من التمويل الإسلامي: تحقيق العدالة والمشاركة والتنمية المستدامة. وعندما نرى الأرقام التي تشير إلى نمو سريع في حجم الأصول والمعاملات، علينا أن نتذكر أن وراءها قصصًا لأفراد مجتمعنا يحلمون بغد أفضل. إن الشراكة بين الفينتك والتمويل الإسلامي ليست مجرد اتجاه عابر، بل دعوة مفتوحة لإعادة تصميم مستقبلنا المالي بطريقة إنسانية ومستدامة.






