الاقتصاد السلوكي: فهم جديد لنظريات القرار الاقتصادي وكيف يمكن تطبيقه في المملكة العربية السعودية

يستكشف هذا المقال مفهوم الاقتصاد السلوكي وكيف تختلف نظرياته عن الاقتصاد التقليدي، مع تطبيقات عملية في المجتمع السعودي لصنع قرارات اقتصادية أكثر وعياً.

الاقتصاد السلوكي: فهم جديد لنظريات القرار الاقتصادي وكيف يمكن تطبيقه في المملكة العربية السعودية
يتناول المقال علم الاقتصاد السلوكي وكيف تعيد النظريات الحديثة تشكيل فهمنا لقرارات المستهلكين والمستثمرين في السعودية، ويشرح أهمية الاعتراف بتحيزاتنا لصنع قرارات أفضل.


لعدة عقود، افترضت النظريات الاقتصادية الكلاسيكية أن البشر يتخذون قراراتهم بعقلانية بحتة، وأنهم يسعون دائمًا لتعظيم منفعتهم بأقل تكلفة. لكن إذا نظرنا إلى حياتنا اليومية، سنكتشف أننا لا نتصرف دائماً كحسابات حاسوبية. كم مرة اشترينا شيئاً لا نحتاجه لمجرد أنه كان معروضاً بسعر مخفض؟ أو ترددنا في بيع سهم خاسر على أمل أن يعود للارتفاع؟ هذه التناقضات بين الواقع والنظريات التقليدية دفعت الباحثين إلى تطوير ما يعرف بالاقتصاد السلوكي، وهو مجال يجمع بين علم النفس والاقتصاد لفهم كيف يتخذ الناس قراراتهم فعلاً، بكل ما في ذلك من عاطفة وتحيزات.

من أهم المفاهيم في الاقتصاد السلوكي ما يسمى بانحياز الخسارة، حيث يميل الأفراد إلى الشعور بالألم الناتج عن الخسارة أكثر من فرحة الربح المماثل. لذلك قد يظل المستثمر محتفظاً بسهم يهبط خوفاً من الاعتراف بالخسارة. كذلك مفهوم الإرساء، الذي يجعلنا نعتمد على معلومة أولية ونبني عليها أحكامنا؛ فعندما نسمع أن سعر عقار في حي معين يبلغ خمسة ملايين ريال، قد يبدو لنا سعر أربعة ملايين معقولاً رغم عدم امتلاكنا لمعلومات كافية عن القيمة الحقيقية. هذه الأمثلة تظهر أن عقولنا تستخدم اختصارات ذهنية لتبسيط الخيارات، لكنها أحياناً تضللنا.

فهم هذه الانحيازات ليس مسألة نظرية فقط، بل له تأثير عملي على حياتنا. المرأة التي تدير مشروعاً منزلياً قد ترفض رفع أسعار منتجاتها رغم ارتفاع التكاليف لأن لديها ما يسمى بارتباط التملك: هي تعطي قيمة عاطفية لمنتجاتها وتشعر أن الزبائن لن يدفعوا أكثر. الطالب الذي يؤجل دراسة مادة صعبة حتى اللحظة الأخيرة يقع تحت تأثير التحيز للحاضر، حيث يمنح المتعة الآنية وزناً أكبر من المنافع المستقبلية. إدراكنا لهذه الأنماط يمكن أن يساعدنا على اتخاذ قرارات أكثر توازناً ورأفةً بأنفسنا، بدلاً من جلد الذات على أخطاء نعيد ارتكابها.

في السياق السعودي، تقدم أمثلة عديدة على تداخل الثقافة مع الاقتصاد السلوكي. في شهر رمضان، على سبيل المثال، تزداد الاستهلاكات الغذائية بشكل ملحوظ رغم أن ساعات الأكل أقل. يعود ذلك جزئياً إلى رغبتنا في الضيافة والكرم، لكن أيضاً إلى تأثير ما يعرف بنظرية الندرة: عندما نشعر بأن الطعام سيكون محدوداً لعدة ساعات، نشعر بالدافع لشراء وتخزين أكثر مما نحتاج. كذلك تميل الأسر إلى الاستثمار في الذهب والعقار كملاذ آمن، مدفوعة بذاكرة الأزمات السابقة والخوف من المستقبل، وليس فقط بحسابات الجدوى المالية. هذه السلوكيات ليست خطأ أو نقصاً، بل انعكاس لتجارب جمعية وحكمة موروثة.

يمكن لصناع السياسات في المملكة الاستفادة من الاقتصاد السلوكي لتصميم مبادرات تشجع على السلوكيات المرغوبة بطريقة تحترم خيارات الأفراد. على سبيل المثال، أثبتت الدراسات أن جعل الادخار الافتراضي في خطط التقاعد خياراً تلقائياً يزيد من معدلات المشاركة مقارنة بتركه اختيارياً. في مجال الصحة، يمكن لتغيير ترتيب الأطعمة في المقاصف المدرسية أن يشجع الأطفال على اختيار خيارات أكثر صحة دون فرض أو إجبار. هذه 'الدفعات الصغيرة' أو 'النُدُج' تعمل لأننا مبرمجون لاتخاذ الطريق الأسهل، وإذا تم تسخير هذا الميل لدعمنا، فإننا نستفيد جميعاً.

لكن قبل أن نفكر في تغيير العالم من حولنا، علينا أن نبدأ بفهم أنفسنا. جزء كبير من الاقتصاد السلوكي يدعونا إلى التوقف والتأمل في دوافعنا. لماذا نعطي وزناً كبيراً لرأي شخص معين؟ لماذا نخاف من تفويت فرصة حتى لو لم تكن تناسبنا؟ في هذا البحث عن الذات، نجد أن الحب الذاتي والرحمة جزءان لا يتجزآن من اتخاذ قرارات صحية. عندما نتقبل أننا كائنات معقدة تتأثر بالعاطفة والخوف والرغبة في الانتماء، يمكننا أن نصبح أكثر تسامحاً مع أنفسنا ومع الآخرين.

إن الاقتصاد السلوكي ليس مجرد مجموعة من النظريات بل هو دعوة لإعادة النظر في الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا وإلى الآخرين. وهو يذكرنا بأن الإنسان مركز أي نظام اقتصادي، بكل ما يحمله من أحلام ونقاط ضعف. في المملكة العربية السعودية، يمكن لهذا الفهم أن يقود إلى سياسات اقتصادية أكثر حساسية لاحتياجات المجتمع، وأن يساعد الأفراد على اتخاذ قرارات أكثر وعياً. في النهاية، ليس الهدف أن نصبح مثاليين في قراراتنا، بل أن نصبح أكثر وعياً بها ونستخدم هذا الوعي لبناء مستقبل ينسجم مع قيمنا وثقافتنا.