ريادة الأعمال أم الوظيفة؟ القرار الذي يحدد شكل مستقبلك وهويتك
حيرة الخريج الجديد بين خيار الوظيفة التقليدية ومسار ريادة الأعمال، من منظور نفسي واجتماعي واستراتيجي، ويقدم رؤية عميقة لصناعة القرار المهني بعيدًا عن ضغط العرف أو الخوف من الفشل.

الخريج في مفترق الطرق – سؤال العمل والهوية
تمهيد: الحيرة المقدسة
يخرج الإنسان من قاعات الجامعة بشهادةٍ وقلق، يحمل حلمًا وغموضًا في آنٍ معًا. ويبدأ السؤال الأكثر حضورًا وإلحاحًا: هل أبحث عن وظيفة أم أخلق عملي الخاص؟
لكن السؤال في حقيقته ليس اقتصاديًا فقط، بل هو سؤال وجودي: من أنا؟ وما دوري؟ وهل سأكون امتدادًا لنظام قائم أم نواة لشيء جديد؟
فالمسألة لا تتعلق بالعمل كمصدر دخل فحسب، بل بالعمل كمكان لصناعة الذات، كمرآة تعكس جوهر الإنسان وتطلعاته. ومن هنا يبدأ الصراع.
الوظيفة التقليدية: الأمان الزائف والهيكل الثابت
الوظيفة كما نعرفها تمثل في كثير من الأحيان حلًا جاهزًا، فيه تسلسل إداري، ودخل شهري، ومسؤوليات محددة. وهي مغرية بطبيعتها النفسية لأنها تمنح الشعور بالانتماء، وتقدم نمطًا من "اليقين" في عالم غير يقيني.
لكن هذا النوع من الأمان هو في حقيقته نوع من التنازل التدريجي عن السيادة الشخصية. فالوظيفة التقليدية، في صورتها الشائعة، قد تُشبع الحاجات الدنيا (الدخل، الاستقرار) لكنها تؤجل أو تعطل الحاجات العليا (الإبداع، التأثير، التميز).
ولذا، فإن الدخول في وظيفة بلا وعي ذاتي مسبق يشبه الانزلاق في نهر لا تعرف إلى أين يأخذك، كل ما يُطلب منك أن تسبح وفق التيار.
ريادة الأعمال: الحرية الغامضة والمسؤولية الكاملة
على الجهة الأخرى، تمثل ريادة الأعمال خيارًا محفوفًا بالمجهول، لكنه يمنح الفرد فرصة فريدة: أن يكون هو بذاته مصدر الفكرة، وصانع القرار، ومهندس المصير.
هنا لا أحد يمنحك إذنًا، ولا يقيّم أداءك شهريًا، بل عليك أن تخلق القيمة من العدم، وتقاوم شكوكك الداخلية، وتبني ثقة قبل أن تأتي النتائج. ريادة الأعمال لا تناسب من ينتظر التوجيه، لكنها الحقل المثالي لمن يملك رؤية، وجرأة، وطاقة للتعلم المستمر.
أي الطريقين أختار؟ – قرار العمل كاستراتيجية وجود
1. تحليل نفسي: الوظيفة كامتداد للطفولة، والريادة كدخول لعالم الراشدين
من منظور التحليل النفسي، قد يُنظر للوظيفة على أنها شكلٌ من أشكال "الرعاية المؤسسية" التي تستمر بعد تخرج الإنسان. إذ يجد نفسه ضمن منظومة تمنحه سقفًا للحركة، وآليات للتقييم، وتعفيه من مواجهة الأسئلة الكبرى.
بينما تُجبر ريادة الأعمال الإنسان على التعامل مع ذاته ككائن مكتمل، يتحمل مسؤولية قراراته، ويتعامل مع الفشل كجزء من اللعبة لا نهاية لها.
2. اجتماعيًا: نظرة المجتمع... بين الاحترام التقليدي والريبة من الخارجين عن النص
المجتمعات، خاصة تلك ذات البنية المحافظة، تميل إلى احترام المسارات المألوفة. فالوظيفة في القطاع الحكومي أو الشركات الكبرى تُعد مؤشراً على "النجاح" بغض النظر عن طبيعة العمل أو مدى ملاءمته للشخص.
أما من يؤسس مشروعه الخاص، فيواجه في البداية كثيرًا من الأسئلة المشككة، وكأن الجرأة على الحلم تُعد نقيصة. وهنا يلزم الخريج إدراك أن التقدير الاجتماعي لا يجب أن يسبق القناعة الذاتية، بل يتبعها.
3. استراتيجيًا: من يمتلك القرار؟ أنت أم السوق؟
في النهاية، لا توجد إجابة واحدة. فاختيار الوظيفة أو الريادة يجب أن ينبع من فهم حقيقي للذات، لا من ضغط الظروف فقط.
الوظيفة لا تُعد فشلًا، كما أن الريادة لا تضمن النجاح. لكن السؤال الأعمق هو: من يملك القرار؟ هل تختار ما يناسبك، أم تسير مع أول فرصة تُعرض عليك دون أن تتأمل؟
المسألة ليست "ماذا أعمل؟"، بل "لماذا أعمل؟" ومن هنا يبدأ الوعي.