العلاقات السامة: حين يُصبح القرب مؤذيًا
هل تعيش في علاقة تُربكك؟ هل تُحب وتُستنزف في آنٍ معًا؟ هذا المقال بفكك مفهوم "العلاقة السامة" بأسلوب علمي وإنساني، وتمنحك أدوات لفهم، تسمية، وقطع العلاقات المؤذية. اقرأ لتفهم نفسك قبل أن تُبرر للآخر.

في عمق التجربة الإنسانية، لا يُقاس النضج بعدد العلاقات التي نخوضها، بل بقدرتنا على فهمها، تسميتها، والانسحاب منها حين تتحول من مساحة للتغذية النفسية إلى ساحة للاستنزاف. هذه السلسلة تتناول العلاقة السامة من منظور علم النفس السلوكي والإنساني، لا بوصفها حادثة فردية، بل بنية تفاعلية معقدة تتكرر في حياتنا بصور متعددة: عاطفية، اجتماعية، وأحيانًا أسرية. نحاول من خلالها تفكيك آلياتها، رصد آثارها، وتقديم خارطة للتعافي منها. لا تهدف هذه المقالة إدانة أحد، بل إلى إعادة تموضع الفرد داخل ذاته، ليسترد احترامه وإرادته، ويختار علاقاته القادمة بمنطق النضج لا بدافع النقص أو الخوف.
كيف نميز العلاقة السامة؟
في لحظات الصمت التي تتسلل بين تقلبات المشاعر، نقف أحياناً حائرين أمام علاقة تستنزفنا، لكنها لا توضح لنا وجهها الحقيقي. نسأل أنفسنا في الداخل: هل أنا في علاقة صحية؟ أم أن هناك خطباً ما لا أملك له اسماً؟ يتردد السؤال كصرخة داخلية: "ماذا أسمي هذه العلاقة؟"، لكنه لا يجد فينا إجابة مباشرة، بل يجد عقلاً مشوشاً بين ذكريات العاطفة وخدوش الكرامة.
تعريف العلاقة السامة
في علم النفس الاجتماعي والسلوكي، تُعرّف "العلاقة السامة" بأنها نمط تفاعلي مستمر بين طرفين، يؤدي إلى إضعاف أحدهما نفسياً أو كليهما معاً، ويغذي فيهما مشاعر القلق، التوتر، انعدام الأمان، واستنزاف الطاقة العقلية والعاطفية. ويستند هذا المفهوم إلى أعمال رواد مثل "ليندا مارتينز" في دراسات العلاقات المؤذية، و"جون غوتمان" في تحليله للعوامل التنبؤية بالطلاق والانهيار العاطفي.
من أبرز علامات العلاقات السامة وفق الأدبيات النفسية:
-
التحكم: عندما يُحرم أحد الطرفين من حق الاختيار أو التعبير بحرية، سواء بصيغة صريحة أو عبر الضغط العاطفي.
-
اللوم المستمر: يتجلى ذلك في تحميل طرف واحد مسؤولية كل الإخفاقات، ولو كانت خارجة عن الإرادة.
-
العقاب الصامت: حيث يتحول الصمت إلى أداة لإيذاء الطرف الآخر بدل أن يكون مساحة للهدوء.
-
التقليل من الذات: وهو حين يُشعِر أحدهما الآخر بأنه بلا قيمة أو أنه "محظوظ فقط لأن هناك من قبله".
-
دورات الإصلاح والانهيار: تتكرر فيها لحظات الندم الزائف يليها نفس السلوك المؤذي، ما يسمى "Cycle of Abuse".
وفقاً للعالمة النفسية "سوزان فورورد"، فإن العلاقة السامة تشبه الإدمان العاطفي، حيث يختبر الفرد نوبات من التعلق العميق متبوعة بخيبة أمل، فيظل عالقاً في حلقة مغلقة لا تتيح له الخروج أو التغيير.
الميل اللاواعي إلى تجاهل المؤشرات
تشير الدراسات إلى أن كثيراً من الأفراد، خاصة في علاقات الطفولة أو الشراكات العاطفية، يتغاضون عن العلامات المبكرة للسُمية، بسبب عوامل مثل:
-
نمط التعلق غير الآمن (Insecure Attachment): كما وصفه "جون بولبي"، يجعل الشخص مائلاً للارتباط حتى في بيئة مؤذية خوفاً من الرفض أو الهجر.
-
نموذج الأسرة السام: حيث يتطبع الفرد على أن "الحب يرافقه ألم"، فيرى الإيذاء العاطفي شيئاً طبيعياً أو حتى دليلاً على قوة المشاعر.
-
آليات الدفاع النفسي (Defense Mechanisms): مثل التبرير أو الإنكار، التي تعطل قدرة الفرد على تقييم العلاقة بموضوعية.
أمثلة واقعية حين تأخذ العلاقة شكلًا مألوفًا لكن مؤذٍ
ليلى، موظفة ناجحة في الثلاثينات، كانت تعتقد أن شريكها غيور لأنه يحبها. لكنه مع الوقت بدأ يمنعها من الخروج دون إذنه، ويتهمها بالخيانة إذا تأخرت في الرد على رسائله، ويغضب إن أشادت بأي شخص آخر. كانت في كل مرة تبرر ذلك بأنه "خوف من الفقد"، إلى أن وجدت نفسها تخفي هاتفها، وتقلّص تواصلها مع الآخرين، وفقدت شغفها بحياتها المهنية والاجتماعية. هذا النمط يُفسره علماء النفس بأنه سلوك تحكمي ناتج عن اضطراب في الهوية لدى الطرف المسيطر، وغالباً ما يُغلف بمبررات عاطفية ليُخفي تحته نزعات الامتلاك وانعدام الأمان الداخلي. وهو ما يحوّل العلاقة إلى مصدر مزمن للتوتر ومُعطّل للنمو الفردي.
مثال آخر
سلمان، شاب في العشرينات، يرتبط بصداقة طويلة مع زميل دراسة كان يلجأ إليه دوماً وقت الأزمات. لكن في المقابل، لم يكن هذا الصديق يظهر في لحظات حاجة سلمان أو حتى يبادله الاهتمام أو الدعم. كلما حاول سلمان إبداء استيائه، قوبل بتعليقات مثل: "أنت حساس زيادة عن اللزوم"، أو "كفاك دراما". هنا نرصد ما يُعرف بـ Gaslighting، وهي استراتيجية نفسية لتقويض شعور الفرد بواقعه وتشويش إدراكه لحقوقه. تكرار هذا النمط في علاقة صداقة قد يكون أكثر خطراً من العلاقات العابرة، لأنه يحفر عميقاً في ثقة الفرد بنفسه.
ليست كل علاقة صعبة سامة، ولكن كل علاقة سامة تستهلك فينا ما لا يُستعاد بسهولة: احترام الذات، وضوح الإدراك، القدرة على النمو. ولأن العلاقات السامة لا تُبنى على حادثة مفردة بل على نمط مستمر من التفاعل المختل، فإن فهم هذا النمط هو الخطوة الأولى لكسر دائرته.
الديناميات النفسية في العلاقات السامة
يعتمد التكوين النفسي للعلاقة السامة على ما يسميه "كارسون" و"بيتسمان" في دراساتهم عن العلاقات المؤذية: التواطؤ غير الواعي (Unconscious Collusion)، أي أن العلاقة تقوم على تبادل أدوار مختلة، لكنها تُغلف بمبررات عاطفية سطحية.
1. نمط التعلق غير الآمن (Insecure Attachment):
-
الشخص المتعلق تعلقًا قلقًا (Anxious Attachment) يتشبث بالعلاقة خوفًا من الهجر، ويبرر الإهانة على أنها سوء تفاهم مؤقت.
-
أما الشخص ذو التعلق المتجنب (Avoidant Attachment) فيؤثر الغياب أو الصمت أو التلاعب لتفادي القرب العاطفي الحقيقي، مما يُغذي القلق لدى الطرف الآخر.
2. اضطراب الهوية النفسية (Identity Diffusion):
-
بعض الأفراد يدخلون العلاقات السامة لتعويض شعور داخلي بعدم الاكتمال، فيُصبح الآخر وسيلة لتعريف الذات.
-
هذه الديناميكية تُعرف في العلاج النفسي باسم العلاقة التكميلية المرضية، إذ يشعر الفرد بأنه لا "يوجد" إلا من خلال الآخر.
3. آليات الإسقاط والتشويه (Projection & Distortion):
-
الطرف المؤذي كثيراً ما يُسقط عيوبه أو مشاعره السلبية على الآخر، فيتهمه بالخيانة وهو من يخون، أو بالأنانية وهو من يُقصي مشاعره.
-
الضحية تبدأ في الشك بنفسها تدريجياً، ويحدث ما يُعرف بـ "تشوه الإدراك الذاتي"، وهي حالة موثقة في العلاج المعرفي السلوكي (CBT) كأحد أخطر نتائج العلاقات السامة.
4. دورة العنف العاطفي (Cycle of Emotional Abuse):
-
وهي حلقة متكررة تتكون من: توتر – انفجار (لفظي أو عاطفي) – اعتذار أو مرحلة "العسل" – ثم توتر من جديد.
-
هذه الدورة تُشبه نمط العلاقات المؤذية الذي وصفته "لين ووكر" في أبحاثها حول الإساءة العاطفية، وتؤدي إلى حالة من الارتباك العاطفي تسمى Trauma Bonding، تجعل الضحية مرتبطة بالجاني رغم الإيذاء.
لماذا نستمر رغم الألم؟
من منظور علم النفس التطوري، يميل الإنسان إلى تفضيل "المعروف المؤلم" على "المجهول المريح". لذلك، فإن الخروج من علاقة سامة لا يتطلب مجرد قرار عقلاني، بل إعادة برمجة لمفاهيم الذات، الثقة، والاستحقاق. تشير دراسات العلاج الجدلي السلوكي (DBT) إلى أن الضحية في العلاقات السامة تطور مع الوقت ما يسمى بـ "التحمل السام للألم" (Toxic Tolerance)، وهي قدرة مفرطة على التعايش مع الإهانة أو التجاهل وكأنها جزء طبيعي من الحياة، مما يجعل الانفصال يبدو وكأنه خيانة للنفس، لا إنقاذًا لها.
مثال تطبيقي
سارة ومهند، زوجان في بداية الثلاثينات، بدت علاقتهما مثالية في بدايتها. كان مهند حنونًا وداعمًا أمام الآخرين، بينما كانت سارة توصف بـ "المحظوظة". لكن خلف الأبواب المغلقة، بدأت علامات غير مرئية بالظهور: تعليقات مهند المتكررة على مظهرها أمام الآخرين، ملاحظاته التي تنتقص من طموحها المهني، انسحابه العاطفي كلما أبدت رأياً مخالفاً. في البداية، كانت سارة تعزو ذلك إلى ضغوط العمل أو التعب، ثم بدأت تلوم نفسها: "ربما أُبالغ"، "أنا حساسة أكثر من اللازم". ومع مرور الوقت، تلاشت حدودها النفسية، وبدأت تخشى إبداء رأيها حتى لا تثير "انزعاجه". ما حدث بين سارة ومهند يُعد مثالاً لما يسمى بـ الارتباط الصدمي أو التعلق المؤذي (Trauma Bond)، حيث ترتبط الضحية بالمؤذي عبر حلقات متكررة من الأذى يليه اعتذار عاطفي أو لحظات حميمية مزيفة. هذا النمط يُعمّق من شعور الضحية بأنها "لا تملك خياراً"، وأن الانفصال خيانة لما مضى، رغم أن العلاقة لم تعد تغذي إلا الألم.
سارة استمرت في العلاقة ثلاث سنوات إضافية رغم شعورها المتزايد بالخواء والارتباك. وقد احتاجت لتدخل علاجي نفسي حتى تتمكن من إدراك أنها ليست مسؤولة عن سلوك الآخر، وأن الصبر في العلاقة لا يعني التضحية بالهوية.
هل توجد علاقة صحية؟
في عالم مشبع بالصور المثالية للعلاقات، قد نظن أن العلاقة المتناسبة تعني التطابق في الأفكار، أو الاتفاق الدائم، أو حتى التشابه في الخلفية والتجربة. لكن الواقع أعمق بكثير. فالعلاقات المتناسبة ليست تلك التي تخلو من الخلاف، بل التي تعرف كيف تُدير اختلافها بدون أن تُفقد أطرافها احترامهم لذواتهم أو لبعضهم.
خصائص العلاقة المتناسبة
من منظور علم النفس الإنساني وعلم العلاقات (Relationship Science)، العلاقة الصحية لا تُقاس بالتماهي، بل بالتوازن بين الاحتياجات الفردية والروابط المشتركة. ويمكن تحديد أبرز الخصائص التي تُميز العلاقة المتناسبة كما يلي:
1. الحدود النفسية الواضحة (Clear Psychological Boundaries):
-
وُثقت هذه الخاصية في أعمال "فرانسيسكا ديني" و"دانييل سيغل"، حيث تشير إلى أن القدرة على قول "لا" دون الشعور بالذنب، أو التعبير عن الذات دون الخوف من الهجر، هي مؤشر نضج في العلاقة.
2. التكافؤ في التأثير العاطفي (Mutual Emotional Influence):
-
ويعني أن ما يُحزن أحد الطرفين أو يُفرحه له صدى في الآخر، لكن دون أن يُصبح سبباً لفقدان التوازن. وهي نقطة تميّز العلاقات الناضجة عن العلاقات التبعية.
3. دعم النمو الفردي (Support of Individual Growth):
-
العلاقة المتناسبة تتيح لكل طرف أن ينمو في اتجاهه الخاص، دون شعور الطرف الآخر بالتهديد. وتشير دراسات "روبرت ستيرنبرغ" إلى أن العلاقات الناجحة تُشبه "شراكة في النمو"، حيث لا يُطلب من الطرف الآخر أن يتنازل عن تطوره ليُرضي الآخر.
4. إدارة الخلاف بطريقة صحية (Healthy Conflict Management):
-
في العلاقات المتناسبة، يُنظر إلى الخلاف كفرصة للفهم لا كتهديد للكيان المشترك. لا يُستخدم الصمت كعقاب، ولا يُنزع الحب كوسيلة للابتزاز العاطفي.
لماذا تبدو العلاقات المتناسبة نادرة؟
تشير بعض الأبحاث إلى أن غالبية الناس لم يشهدوا نموذجًا حيًّا لعلاقة صحية في بيئتهم الأولى. النموذج الأبوي أو العائلي كان - في كثير من الأحيان - مليئاً بالصراعات، الصمت الطويل، أو المحبة المشروطة. ولهذا، حين يلتقون بعلاقة متزنة، يشعرون بأنها "باردة" أو "بلا شغف"، لأن جهازهم العصبي تعوّد على الاستجابة للدراما لا للسلام. وقد أشارت دراسات علم الأعصاب العاطفي (Affective Neuroscience) إلى أن الأشخاص الذين عاشوا في بيئة عاطفية متقلبة يميلون إلى تفسير الهدوء العاطفي على أنه "فراغ"، في حين أنه في الواقع هو التوازن.
كيف تبدو العلاقة المتناسبة في الواقع؟
أمل وعبدالله، زوجان يعملان في مجالات مختلفة تمامًا. أمل مهندسة، دقيقة ومنظمة، وعبدالله يعمل في مجال إبداعي، يميل للعفوية والتجريب. رغم اختلافاتهما، احتفظ كل منهما بحيزه الخاص، ويؤمن كلاهما أن الاختلاف لا يُلغي القرب. حين تظهر خلافات حادة حول أسلوب إدارة الوقت أو المال، يتحاوران حتى يجدان نقطة التقاء واضحة، دون استخدام للاتهام أو الانسحاب. هذه العلاقة تقوم على نموذج "التكامل النفسي"، وليس التشابه. وهو ما تُشير إليه نظرية "الترابط الآمن" (Secure Attachment) بأنها العلاقة التي تعطي للطرفين شعورًا بأن وجودهما ليس مرهونًا بالتشابه، بل بالاحترام المتبادل ووضوح القيم.
ليس كل انسحاب ضعفًا، وليس كل بقاء وفاء
في كثير من الأحيان، لا يكون أصعب ما في العلاقة هو استمرارها، بل الاعتراف بأنها لم تعد تصلح للاستمرار. ثمة لحظات تُشبه كسر حاجز الصوت: حين تدرك أن ما تمنحه لا يُثمر، وأن بقاءك صار على حساب ذاتك، وأن "القطع" لم يعد خيارًا أنانيًا بل قرارًا أخلاقيًا.
لماذا يصعب قطع العلاقة؟
من منظور علم النفس العاطفي والسلوكي، فإن قرار الانفصال – سواء في علاقة عاطفية، صداقة، أو حتى علاقة أسرية – يرتبط بعوامل عميقة تتجاوز المنطق الظاهري. نوجزها في المحاور التالية:
1. التعلق العاطفي غير الآمن (Insecure Emotional Attachment):
-
كما أظهرت دراسات "ماري أينسوورث" و"جون بولبي"، يميل الأفراد المرتبطون بنمط تعلق قلق إلى تأجيل الانفصال خوفًا من الوحدة، حتى لو كانت العلاقة مُنهكة.
2. التشويه المعرفي والإحساس بالذنب (Cognitive Distortions & Guilt):
-
كثيرون يربطون الانفصال بالفشل، أو يشعرون بأنهم "سيُؤذون الطرف الآخر"، حتى لو كانوا الضحية. وهنا يتجلى ما يُعرف بـ "عقدة المنقذ" (Savior Complex)، حيث يعتقد الفرد أن عليه إصلاح الآخر أو التضحية من أجله.
3. العادات العصبية وعنف الاعتياد (Neural Habituation):
-
الدماغ يتكيّف مع النمط السائد، حتى لو كان مؤلمًا. فتكرار الإيذاء يخلق مسارات عصبية تُخدّر الإحساس بالخطر تدريجيًا، ما يجعل الخروج من العلاقة يبدو أشبه بكسر "إدمان" لا مجرد قرار سلوكي.
4. الخوف من المجهول (Fear of Uncertainty):
-
تشير الدراسات في علم النفس السلوكي (مثل أعمال "دان أرييلي") إلى أن الإنسان يفضل الألم المعلوم على الاحتمال المجهول. وهذا ما يجعل كثيرًا من الناس يظلون في علاقات مدمرة لأن "الواقع القاسي" أهون عليهم من "الفراغ المجهول".
متى يصبح القطع واجبًا لا خيارًا؟
-
حين تُصبح العلاقة مساحة للتهديد النفسي أو الجسدي.
-
حين يُستخدم القرب كأداة للسيطرة، لا للرعاية.
-
حين تتكرر وعود التغيير دون أي مؤشرات سلوكية حقيقية.
-
حين تفقد الشعور بذاتك، أو تتصالح مع الإهانة تحت شعار "التسامح".
القاعدة النفسية هنا واضحة: إذا كان البقاء يُطيل أمد الضرر ولا يحمل أي مؤشرات تغير واقعية، فإن القطع ليس تخليًا، بل شفاء.
مثال تطبيقي
نواف، شاب ثلاثيني، ارتبط بعلاقة عاطفية دامت سنوات. كانت شريكته كثيرة النقد، وتُشعره دوماً بأنه مقصر أو لا يرقى لتوقعاتها. مع الوقت، فقد ثقته بنفسه، وبدأ يشك في قيمته. كلما قرر الرحيل، واجهته باعتذار مؤقت يتبعه نفس النمط. استشار معالجًا نفسيًا، وأدرك أن "محاولاته للحفاظ على العلاقة" كانت تكلّفه تآكل صورته الذاتية. حين قرر الانفصال، لم يكن القرار سهلاً، لكن كانت النتيجة بداية رحلة استرداد الذات. وهذا ما يُشير إليه علم النفس العلاجي باسم إعادة ترسيم الحدود (Boundary Redefinition)، أي لحظة إدراك أن حماية الذات أولوية لا تتعارض مع الأخلاق، بل تُجسده
التعافي من العلاقة السامة وإعادة بناء الذات
الانفصال عن علاقة سامة لا يُشبه نزع شوكة من إصبع، بل أقرب إلى اقتلاع جذر تشبث بجدار الروح. فالخروج منها لا يحررك فقط من الآخر، بل يواجهك بذاتك كما لم تفعل من قبل. وهنا يبدأ السؤال الحقيقي: ماذا أفعل بكل هذا الخراب؟ وأين أضع كل هذا الحنين الذي لم يعُد يجد له عنوانًا؟
مراحل التعافي النفسي بعد العلاقة السامة
تعتمد عملية الشفاء بعد علاقة مؤذية على ما يُعرف في علم النفس الإكلينيكي بـ "إعادة بناء الهوية العاطفية"، وهي عملية نفسية تمر بعدة مراحل:
1. الإدراك والفصل الذهني (Cognitive Separation):
-
تبدأ رحلة التعافي بالاعتراف أن العلاقة كانت سامة، وأن استمرارها لم يكن نُبلاً بل إنكاراً للذات.
-
هذه المرحلة تتطلب كتابة الأفكار، مراجعة الذكريات، وتسمية ما كان يحدث فعلاً بمسمياته: تحكم، تلاعب، تجاهل... لا "حب بطريقة صعبة".
2. سحب الإسقاطات (Withdrawal of Projections):
-
خلال العلاقة، يضع الإنسان كثيرًا من أحلامه، صورته المثالية، وحتى آلامه القديمة على الطرف الآخر. وبعد القطع، يعيد كل ذلك لنفسه. هذه العملية مؤلمة ولكنها ضرورية، وتُعد من أبرز أدوات العلاج السلوكي الجدلي (DBT).
3. إعادة التنظيم العاطفي (Emotional Reorganization):
-
وهي المرحلة التي يبدأ فيها الجهاز العصبي بإعادة التوازن، ويتحرر من أنماط التفاعل المرهقة. تنخفض التوترات المزمنة، ويبدأ الفرد باستعادة النوم والتركيز.
-
هذه المرحلة تتعزز بممارسات مثل: التدوين، الرياضة، والتأمل الواعي (Mindfulness).
4. استعادة المعنى (Reconstruction of Meaning):
-
كما يقول "فيكتور فرانكل": ليس الألم ما يُحطمنا، بل غياب المعنى فيه. فحين يستطيع الإنسان أن يرى التجربة المؤذية كجزء من رحلة نضجه، يتحول الجُرح إلى مصدر للفهم، لا للعجز.
أدوات عملية للتعافي
-
العلاج النفسي الفردي: مهمته ليست فقط الشفاء، بل إعادة اكتشاف الذات بعد تشوهها تحت وطأة علاقة استنزافية.
-
قطع التواصل التام (No Contact Rule): تجنّب أي تواصل – حتى الفضولي – مع الطرف المؤذي، حتى يتوقف نظامك العصبي عن ربطه بالأمان الزائف.
-
إعادة بناء النظام اليومي: الأنشطة الصغيرة التي كانت تُلغى لأجل "الآخر"، تعود لتشكّل هيكل حياتك من جديد.
-
مجتمع داعم: وجود أصدقاء حقيقيين أو مجموعات دعم تتيح لك أن تتكلم بلا خوف من التقييم.
مثال تطبيقي
رُبى، امرأة في بداية الأربعينات، خرجت من علاقة زواج دامت ١٥ عاماً، مليئة بالإهمال والتقليل من الذات. في البداية، شعرت بالذنب، وفقدت بوصلتها النفسية. لكنها بدأت بممارسة الكتابة اليومية، وسجلت نفسها في دورة للرسم، شيئاً ما كانت تؤجله دائماً. بعد عامين، كتبت: "لم أخرج من علاقة، بل خرجت من سجنٍ لم أكن أعلم أني داخله". هذه القصة تُجسد ما يُعرف في علم النفس بـ Post-Traumatic Growth، أي النمو النفسي بعد التجربة الصادمة، حيث لا يعود الإنسان كما كان، بل يعود أكثر إدراكًا لذاته، وأقوى في اختياراته.
ختاماً، ليست الغاية من فهم العلاقات السامة أن نُصبح أكثر حذرًا فحسب، بل أن نصبح أكثر وضوحًا مع ذواتنا. أن نُدرك أن العلاقة لا تُقاس بطولها، بل بقدرتها على حفظ كرامتنا ومساعدتنا على النمو. وأن لا يكون البقاء فيها مقاومة نبيلة، بل تهربًا من مواجهة نقص في الاستحقاق. ما يطرحه هذا المقال ليس إجابات نهائية، بل دعوة للتأمل، وفهم أن الحب لا يكون صادقًا إذا مرّ من خلال الإهانة، وأن الانسحاب ليس نهاية الحكاية، بل بداية كتابة ذاتك من جديد، بقلم لم يمنحه لك أحد.