الرؤية الأخرى لعزاء الفلسفه لبوئثيوس (الصراع مابين الإنسان ونفسه-من منظور نفسي)
عزاء الفلسفه لبوئثيوس من منظور نفسي، يمثل صراع داخلي مابين الإنسان ونفسه. صراع يبدأ بالشعور بالصدمه ثم خيبه الأمل بسبب السجن والتعذيب ثم الحكم بالإعدام ظلما. مضافا إليها التعرض للخيانه من الاصدقاءه وعدم السماح له بالدفاع عن نفسه. جميعها أدت إلى الشعور بالصدمه والخيبه التي تحولت إلى وحده وقنوط ويأس ثم حزن شديد. إحساس ممكن أن يمر به الإنسان وفي أكثر الحالات تتحول هذه المشاعر في موقف مشابه إلى إكتئاب شديد قد يؤدي في بعض الحالات إلى الإنتحار.ولكن بوئثيوس تعامل مع هذه المشاعر القاهره بأسلوب استثنائي نتج عنه أجمل وأروع عزاء على مر العصور تمثل قي كتابه "عزاء الفلسفه". فمن هو بوئثيوس؟ وماهو عزاؤه؟
صدمة بوئثيوس بدخوله السجن ظلماً والحكم عليه بالإعدام، وجميع الظروف المحيطة به، كانت ظروفاً أشعرته بمشاعر قاهرة؛ إذا تعرض لها إنسان آخر قد تقوده إلى الاكتئاب، وربما بنسبة كبيرة إلى الانتحار. ولكن بوئثيوس، لامتلاكه الإرادة القوية والمرونة في التفكير، قام بتهدئة نفسه بالحديث معها. وقام بتدوين هذا الحوار مع المشاعر التي أحس بها، خالقاً حواراً داخلياً بينه وبين أكثر شيء أحبه وآمن به، وهي "الفلسفة". فأخرج لنا حواراً تكاد تجزم إذا ما قرأته بأنه بين شخصين وليس شخصاً واحداً، لما فيه من تناقضات بين الأسئلة وإجاباتها، ما بين اليأس والتفاؤل، وما بين القنوط والأمل، وما بين الضياع وإيجاد الطريق... إلخ. فكان حواراً ما بين إنسان حزين فاقد للأمل وبين صوته الداخلي الذي يحاول إبقاءه على قيد الأمل.
من هو بوئثيوس؟
بوئثيوس كان عالماً رومانيّاً وفيلسوفاً مسيحياً ورجل دولة. من مواليد إيطاليا، عاش في الفترة ما بين 477–526م. كان له دور مهم في نقل الفلسفة اليونانية والعلوم إلى العالم اللاتيني في العصور الوسطى. وكان له دور مهم في وضع أسس الرياضيات والمنطق والموسيقى، وله عدة مؤلفات في الهندسة والحساب تم استخدامها لقرون خلال وقت كان فيه الإنجاز الرياضي في أوروبا في مستوى منخفض. تنقسم كتاباته إلى فلسفية ولاهوتية وعلمية. تتميز أعماله بوضع أفكاره الفلسفية ضمن إطار مفاهيمي معتمد على تفسيرات أفلاطونية مُحدَّثة لأرسطو مع إضافة لمساته الدقيقة الفلسفية المسيحية. عمل كأحد أرفع المسؤولين في نظام القوط الشرقية لثيودريك في إيطاليا، ولكن بسبب اختلافه مع الكثيرين في البلاط وهجومه عليهم بسبب فسادهم، تم التآمر عليه واتهامه بالخيانة وممارسة السحر وتم سجنه وتعذيبه والحكم عليه بالإعدام. أبرز وأشهر أعماله هو كتابه "عزاء الفلسفة" الذي كتبه أثناء وجوده في السجن قبل إعدامه.
من أقواله
-
"لا يوجد شيء بائس، إلا إذا كنت تعتقد ذلك، ومن ناحية أُخرى لا شيء يجلب السعادة، إلا إذا كنت راضياً عنه."
-
"من كان فاضلاً فهو حكيم، ومن كان حكيماً فهو صالح، ومن كان صالحاً فهو سعيد."
-
"إن كل الحظ هو حظ جيد، لأنه إما أن يُكافِئ أو يُؤَدِّب أو يُصْلِح أو يُعاقِب، وبالتالي فهو إما مفيد أو عادل."
-
"إن فضيلة الإنسان هي كل ما يملكه لاحقاً، لأنه لا يتعرض للخطر بسبب تقلبات الحظ."
-
"الموسيقى مرتبطة بنا بشكل طبيعي لدرجة أننا لا نستطيع التحرر منها حتى لو رغبنا في ذلك."
الرؤية النفسية لكتاب "عزاء الفلسفة"
شعور بوئثيوس بالصدمة بسبب دخوله السجن ومن ثم خيبة الأمل والظلم لعدم السماح له حتى بالدفاع عن نفسه، جعله يشعر بمشاعر مختلفة من الغضب والحزن والإحباط، مما نتج عنه نظرة تشاؤمية للحياة ولكل شيء من حوله، وهذا كان واضحاً في بداية وصف مشاعره في حواره. وبحسب إرادة الإنسان وشخصيته، ممكن أن يؤدي التشاؤم إلى الاستسلام، أو ممكن أن يكون دافعاً وحافزاً للنمو. فإذا كان الشخص يملك إرادة وقوة ومرونة، فإنه يستطيع أن يحوّل مشاعر الأسى والقهر إلى شغف بشيء ما وإلى شجاعة. وهذا الشغف وهذه الشجاعة تجلت في طريقة بوئثيوس في التعامل مع وضعه وخيبة أمله ويأسه، حيث تمكن من تحويل هذه المشاعر إلى قوة ذهنية عالية مكنته في نهاية الأمر من إعداد أجمل حوار على الإطلاق. فبدأ بالحديث مع نفسه أو الصراع مع ذاته على شكل حوار متناقض ما بين خيبة أمله وتفاؤله، وما بين الظلام والنور، وقام بتدوين هذا الحوار. محاولاً بهذا تنظيم أفكاره ومساعدة دماغه على تفسير ما يمر به وفهمه، وبالتالي تقليل الضغط على نفسه وعقله.
الحوار مع الذات في علم النفس
عندما يبدأ الإنسان بالتحدث مع نفسه، فهو يعمل على إعادة التواصل الداخلي لديه، وهو سلوك طبيعي يساعد على التركيز والتخطيط وتنظيم المشاعر. ولا يُعتبر الحديث مع النفس مصدراً للقلق إلا إذا كان حديثاً غير منتظم ومصحوباً بأعراض أُخرى لاضطراب آخر. فما قام به بوئثيوس عندما تحدث مع نفسه هو تنظيم أفكاره ومحاولة فهم ما يحدث له وأسباب حدوثه تمهيداً لتقبله. فهذا الحوار الذي دار بين بوئثيوس وذاته الداخلية التي تمثلت "بالفلسفة"، ساعده على تقبل الأحداث من خلال فهم الأسباب، وساعده على التغلب على خوفه ومواجهة الخوف من الإعدام. وهذا ما فعله من خلال إدارة الحوار بطريقة التحليل العقلاني للأحداث وتقليل التركيز على المخاوف القادمة المتمثلة "بإعدامه". وقام بتدوين الأحداث التي مر بها ومظلوميته بشكل حوار بالتفصيل.
فوائد تدوين المعاناة
تدوين المعاناة في علم النفس
تدوين المعاناة في علم النفس يساعد على معالجة المشاعر، وتكوين منظور آخر بعيداً عن التشاؤم، ويساعد من التخلص من المشاعر الداخلية المكبوتة، وتخفيف التوتر وأعراض ما بعد الصدمة. والتي تمثلت هنا في "عزاء الفلسفة" بتدوين بوئثيوس لجميع الأحداث التي مر بها بالتفصيل، وصولاً إلى خسارته لمكانته الاجتماعية الرفيعة وخيانته من قبل من حوله، ودخوله السجن وتعذيبه والحكم عليه بالإعدام.
من فوائد تدوين الأحداث المُرهِقة والآلام
-
تساعد على تخفيف التوتر العاطفي والجسدي، حيث وجدت الدراسات بأن هذه الطريقة تحفز إطلاق مواد كيميائية تعمل على تهدئة الجهاز العصبي.
-
تساعد على تغيير المنظور من خلال توفير رؤية أكثر موضوعية وشمولية للموقف.
-
تساعد على إدارة أعراض الصحة النفسية، حيث يمكن للكتابة مساعدة الأشخاص الذين يعانون من اكتئاب أو أعراض ما بعد الصدمة للتأقلم مع الأعراض وفهم تجاربهم وبالتالي تهدئة مشاعرهم، وتعزيز الحديث الإيجابي مع النفس.
-
توفر شعوراً بالسيطرة؛ فعند الشعور بالإرهاق، قد توفر الكتابة شعوراً بالمبادرة والتعبير عن المشاعر الصادقة بدون أي خوف من أية أحكام، وبالتالي الشعور بالراحة النفسية.
إن ما قام به بوئثيوس من صراع أو حوار مع ذاته أولاً, وتدوين هذا الحوار ثانياً ، هو إعطاء لنفسه الحرية ولعقله المجال لتغيير المنظور والتفكير، وبالتالي النظر إلى الأحداث القاهرة من زاوية أخرى مكنته في النتيجة من تبديد الظلام بداخله، وتحويل يأسه وحزنه وإحباطه إلى حوار مدون ومواقف فلسفية قابلة للفهم، ساعدته على التغلب على خوفه من الموت.
فتحول يأسه إلى عزاء، وما أجمله من عزاء، بدأ بصراع احتجاجاً على الواقع، وانتهى بعزاء متقبلاً فيه لهذا الواقع.
فما أقوى الإنسان وما أقوى إرادة الإنسان الذي يستطيع تحويل اليأس إلى قوة وعمل فلسفي يبقى لقرون طويلة شاهداً على قدرة الإنسان على مواجهة أصعب المواقف على الإطلاق، وهو انتظار الموت المحقق. فإرادته القوية أخرجته من الظلام وخلدت عمله واسمه لقرون.
فأحد الدروس المستخلصة من "عزاء الفلسفة لبوئثيوس" هو أن كل شيء يعتمد على الطريقة التي نفكر بها، والطريقة التي ننظر بها إلى المواقف، وطريقة تعاملنا معها. فالرضا الحقيقي ينبع من الداخل، وعزاء بوئثيوس خير شاهد على قدرة العقل على تجاوز الصعاب.
المراجع
-
كتاب عزاء الفلسفة لبوئثيوس.
-
How writing can help people with PTSD.
-
Anicius Manlius Severinus Boethius.
-
Writing about emotions may ease stress and trauma.
-
Why should you talk to yourself.
-
Talking to yourself: Is it normal.






