إيفان بافلوف: أب الاشتراط الكلاسيكي وكيف أثرت تجاربه على فهمنا للصحة النفسية

إيفان بافلوف، عالم فسيولوجيا روسي، اكتشف مبدأ الاشتراط الكلاسيكي عبر تجاربه الشهيرة على الكلاب، مما أدى إلى تحول جذري في علم النفس والعلاج السلوكي. يعرض المقال تأثير تجاربه على فهم العادات والسلوكيات وكيفية استخدامها في علاج الاضطرابات النفسية.

إيفان بافلوف: أب الاشتراط الكلاسيكي وكيف أثرت تجاربه على فهمنا للصحة النفسية
الاشتراط الكلاسيكي لبافلوف يوضح كيف يرتبط صوت الجرس باستجابة الكلاب ويرمز إلى العادات والسلوكيات المكتسبة وتأثيرها على الصحة النفسية


في زمن يسعى فيه البشر لفهم القوى الخفية التي تشكل سلوكهم، وقف عالم روسي يحمل حلم تحويل أسرار العقل إلى معادلات بسيطة. إيفان بافلوف، الطبيب الفيزيولوجي الذي ولد في عام 1849، لم يكن سوى رجل مولع بعلوم الأعصاب والانعكاسات. لكنه بذكاء القائد الاستراتيجي الذي يراقب كل حركة على رقعة الشطرنج، التقط ظاهرة بسيطة في مختبره وحولها إلى نظرية غيرت مجرى علم النفس. تجاربه على الكلاب لم تكن مجرد ألعاب علمية؛ كانت قصة عن كيف يتعلم الكائن البشري – والحيواني – الربط بين محفزات مختلفة، وكيف يصبح السلوك عادة بمرور الزمن.

بدأ بافلوف حياته في عائلة متدينة وكان من المتوقع أن يصبح كاهناً، لكن شغفه بالعلم دفعه إلى دراسة الطب والفسيولوجيا. مثل ما يكتب روبرت غرين عن أولئك الذين يرسمون مساراتهم الخاصة بعيداً عن توقعات المجتمع، نرى بافلوف ينقلب على قدره ويتبع صوته الداخلي نحو المختبر. بعد سنوات من البحث في جهاز الهضم واللعاب، اكتشف أن الكلاب تفرز اللعاب ليس فقط عند رؤية الطعام، بل حتى عند سماع خطوات الشخص الذي يجلب الطعام. من هنا بدأ في تصميم تجاربه الشهيرة: ربط صوت الجرس بتقديم الطعام، ومع تكرار التجربة، أصبح صوت الجرس وحده كافياً لإفراز اللعاب. كانت هذه اللحظة بمثابة كشف عن "الاشتراط الكلاسيكي"، حيث يتعلم الكائن ربط محفز محايد بمحفز طبيعي حتى يصبح له نفس التأثير.

روبرت غرين يشدد في كتبه على قوة العادات وكيف يمكن أن تحدد مصائر الشعوب والأفراد. بافلوف بدوره أظهر لنا أن السلوك يمكن تشكيله من خلال الربط المكرر بين الأحداث. في القرن العشرين، تبنى علماء النفس السلوكيون مثل جون واتسون وبي. إف. سكنر هذه الأفكار، وطوروا نظريات التعلم القائمة على التكييف. أصبحت تجارب بافلوف أساساً لفهم اضطرابات مثل القلق والخوف؛ حيث يتعلم الشخص ربط أماكن أو أحداث معينة بالشعور بالخطر. ومن خلال إعادة تدريب العقل على فك هذا الربط، يمكن علاج الاضطرابات، وهذا ما نراه في تقنيات العلاج السلوكي المعرفي والعلاج بالتعرض. تستند هذه الطرق إلى مبدأ بسيط: ما تم تعلّمه يمكن فك ارتباطه، وما تم ربطه يمكن إعادة تشكيله.

لم يكن بافلوف مجرد رجل يجرّب على الكلاب؛ كان معلمًا للطبيعة البشرية. كان يؤمن بأن فهمنا للانعكاسات المشروطة يمكن أن يساعدنا في تفسير الكثير من السلوكيات البشرية، من الإدمان إلى العلاقات. كان يدرك أن العادات قوية لدرجة أنها تسيطر علينا دون وعي، وأن تغييرها يتطلب صبراً واستراتيجية؛ وهو درس يتماشى مع رؤى روبرت غرين حول السيطرة الذاتية وإعادة تشكيل الواقع المحيط بك. لذلك فإن إرث بافلوف لم يبق في صفحات الكتب العلمية، بل أصبح جزءاً من الممارسات العلاجية والبرامج التعليمية.

منذ قرابة قرن ونصف، لا تزال تجارب بافلوف تحيا في مختبرات العلاج النفسي. عندما يستخدم المعالجون تقنيات مثل إزالة التحسس أو الإشراط العكسي لمساعدة المرضى على تجاوز المخاوف، فإنهم يستدعون روح العالم الروسي الذي دق الجرس وانتظر لعاب كلب. الفكرة ذاتها بأن العقل يمكن إعادة برمجته تعطي الأمل لكل من يعاني من صراعات داخلية أو سلوكيات ضارة. وكما يذكرنا روبرت غرين، فإن السيطرة على النفس تبدأ بفهم ما يحركها؛ وبفضل بافلوف، أصبحنا نعرف أن الكثير مما يحركنا ليس غامضاً كما يبدو.

قصة إيفان بافلوف ليست مجرد سيرة حياة عالم، بل درس في أن أبسط الملاحظات قد تقود إلى أعظم الاكتشافات. إن إدراكه بأن الأصوات والأشياء يمكن أن تغير الاستجابات الفسيولوجية فتح باباً لفهم التعلم والسلوك البشري. والأهم، أنه أتاح لنا أدوات للتدخل في أنماطنا العاطفية والعقلية. لذلك حين نسمع صوتاً مألوفاً ونشعر بإحساس معين، نتذكر أن وراء ذلك علاقة خفية تعلمناها، وأن لدينا القدرة على إعادة كتابة تلك العلاقة لصالح صحتنا النفسية.