أبراهام ماسلو: هرم الاحتياجات وفهمه للصحة النفسية
تعرف على عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو ونظريته الهرمية في الدوافع الإنسانية، واكتشف كيف تساعدنا في فهم الصحة النفسية وتحقيق الذات.

في تاريخ علم النفس الحديث يبرز اسم أبراهام ماسلو كأحد أهم المفكرين الذين تحدوا الفهم التقليدي لحاجات الإنسان ووضعوا نموذجًا مختلفًا لما يدفعنا في الحياة. ولد ماسلو في بداية القرن العشرين في الولايات المتحدة ونشأ في أسرة بسيطة مهاجرة. بدأ حياته العلمية في دراسة القانون، لكنه سرعان ما انجذب إلى علم النفس فانتقل إلى جامعة ويسكونسن وعمل مع علماء مثل هاري هارلو. هذه الخلفية العلمية والإنسانية جعلته يبحث عن إجابات تتجاوز التفسيرات السلوكية الضيقة لمسلكيات الإنسان، فأطلق مشروعًا فكريًا يربط بين الحاجات الغريزية وبين أعمق تطلعات الروح الإنسانية.
من أشهر إسهاماته «هرم الاحتياجات» الذي أصبح أيقونة في الثقافة الشعبية والعلمية. في قاعدته يضع ماسلو الاحتياجات الفيزيولوجية مثل الطعام والماء والراحة، ويرى أن حرمانها يربك قدرة الإنسان على التفكير في أي شيء آخر. ثم تأتي الحاجة إلى الأمان والاستقرار؛ فالشعور بالخوف المستمر أو التهديد يستهلك مواردنا العقلية ويولد اضطرابات نفسية. بعد ذلك يأتي مستوى الانتماء والعلاقات؛ فالعلاقات الاجتماعية الصحية والعائلة الآمنة توفر سياقًا لظهور التعاطف والثقة والهوية. وفي المستوى الرابع تبرز حاجة التقدير والاحترام المتبادل، حيث يكتشف الإنسان قيمة ذاته من خلال إنجازاته واعتراف الآخرين بها.
لكن قمة الهرم هي ما جعلت ماسلو فريدًا، إذ تحدّث عن «تحقيق الذات» كحالة يحقق فيها الإنسان إمكاناته الإبداعية ويعيش بانسجام مع قيمه الداخلية. يعتبر ماسلو أن الوصول إلى هذا المستوى يتطلب المرور المتوازن عبر المراحل السابقة، لكنه لا يعني الوصول إلى الكمال بل استعداد دائم للنمو والتعلم. في كتاباته اللاحقة أضاف مستوى أخر يسمى «الاحتياجات المعرفية والجمالية» حيث يسعى الإنسان إلى فهم الحقيقة والجمال، وأشار إلى أن البعض يبحث عن شيء يتجاوز الذات سماه «تجارب ذروة» وهي لحظات عميقة من الإحساس بالارتباط مع الكون.
ما يلفت الانتباه في منهج ماسلو هو تركيزه على الصحة النفسية والرفاهية بدلاً من المرض فقط. كان يرى أن دراسة الأشخاص الأصحاء الذين يعيشون حياة منتجة يكشف عن سمات مشتركة مثل التعاطف، الاستقلالية، الرغبة في العدالة، وروح الدعابة. هذه السمات ليست هدايا سماوية بل نتيجة رحلة داخلية طويلة يتغلب فيها الفرد على نقص الحاجات وتناقضات المجتمع. بهذا المعنى يقترب ماسلو من أسلوب روبرت غرين في تحليل القوى الكامنة خلف السلوك البشري؛ فهو يربط بين الدوافع العميقة والسياق الاجتماعي والسياسي، ويظهر أن تحقيق الذات لا يأتي صدفة بل من فهم دقيق لحدودك وطاقاتك.
إسهامات ماسلو أثرت في العلاج النفسي والتربية وإدارة الموارد البشرية. في مجال الصحة النفسية، تظهر أبحاث معاصرة أن توفير الاحتياجات الأساسية من مسكن آمن ودخل كافٍ وعلاقات داعمة يقلل من معدلات الائكئاب والقلق. كما أن العمل على بناء احترام الذات وتعزيز الاندماج الاجتماعي يساعد الأفراد على تخطي الصدمات. بينما يرى كثيرون أن هرم ماسلو ذو طابع غربي ولا يعكس التنوع الثقافي وأن الحاجات قد تتداخل أكثر مما يوحي النموذج الخطي، إلا أن قوة فكرته تكمن في تأكيدها على أن العقل لا ينفصل عن الجسد أو المجتمع. إن النظرة الشمولية التي قدمها تذكّرنا بأن الصحة النفسية ليست مجرد غياب للاضطراب بل حالة من التوازن يتحقق فيها الإحساس بالأمان والاندماج والمعنى.
إذا نظرنا إلى واقعنا الحالي بما فيه من تحديات اقتصادية واجتماعية، نجد أن أفكار ماسلو تظل ملهمة. فاستثمار المؤسسات والدول في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين ورعاية صحتهم النفسية ليس عملاً إنسانيًا فقط بل استراتيجية لبناء مجتمع أكثر استقرارًا وإبداعًا. وعلى المستوى الفردي، يدعونا هرمه إلى التوقف عن مطاردة الإنجازات السطحية والعودة إلى جذورنا النفسية: هل نشعر بالأمان؟ هل نمتلك شبكة دعم نثق بها؟ هل نحترم أنفسنا حقًا؟ الإجابة على هذه الأسئلة تفتح الطريق نحو رحلة تحقيق الذات. وكما يذكّرنا روبرت غرين، فإن فهم الدوافع الخفية داخل النفس البشرية يمنحنا قوة على التحكم في مسارات حياتنا بدلاً من أن نكون أسرى الظروف.
في النهاية، يظل أبراهام ماسلو علامة فارقة في فهم الصحة النفسية والعقلية. لقد كتب عن الإنسان بصورة شاعرية وعقلانية في آنٍ واحد، وجعل من علم النفس أداة للتأمل في إمكاناتنا العميقة. وبينما تتقدم العلوم وتتغير النظريات، تبقى دعوته إلى الاهتمام بالحاجات الإنسانية الشاملة إطارًا أساسيًا لكل من يسعى لبناء عالم أكثر رحمة وتطورًا.