تقنيات التقاط الكربون: هل يمكن أن تكون حلاً للأزمة المناخية؟
تتناول هذه المقالة أحدث التطورات في تقنيات التقاط الكربون وتخزينه، مع مناقشة التحديات والآفاق المستقبلية لهذه التقنيات في مواجهة تغير المناخ العالمي.

في خضم النقاش العالمي حول أزمة المناخ وأهداف الحياد الكربوني، تبرز تقنيات التقاط الكربون وتخزينه (CCS) كواحدة من أكثر الحلول إثارة للجدل. فكرة امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي أو من مداخن المصانع ثم عزله في خزانات جيولوجية ليست جديدة، لكنها شهدت في السنوات الأخيرة قفزات ملحوظة في مجال البحث والتطوير. الأمل هو أن تتيح هذه التقنيات للمجتمعات الصناعية استمرارية العمل دون زيادة تراكم الغازات المسببة للاحتباس الحراري، لكن الواقع أكثر تعقيداً مما يبدو في العناوين.
بداية، تعتمد أغلب أنظمة التقاط الكربون التقليدية على عمليات كيميائية لالتقاط ثاني أكسيد الكربون من تيارات غازية مركزة مثل مداخن محطات الطاقة. يتم تمرير غازات العادم عبر محاليل تحتوي على أمينات تقوم بامتصاص ثاني أكسيد الكربون ثم يتم تسخين المحاليل لتحرير الغاز وعزله. هذه الطريقة أثبتت فعاليتها في بعض المشاريع التجريبية، لكنها تستهلك كميات هائلة من الطاقة وتعتمد في الأساس على وجود مصدر للانبعاثات يمكن التحكم فيه. ومع انتقال أجزاء كبيرة من إنتاج الطاقة إلى مصادر متجددة منخفضة الانبعاثات، يقل عدد هذه المصادر المركزة.
من هنا جاءت محاولات أكثر طموحاً تعرف باسم «الإزالة المباشرة للهواء» (Direct Air Capture)، حيث تُشفط كميات كبيرة من الهواء من المحيط وتُمرر عبر مرشحات أو محاليل قادرة على انتزاع ثاني أكسيد الكربون عند تراكيز منخفضة للغاية. شركات ناشئة مثل «كلايم ووركس» السويسرية و«كاربون إنجنيرينغ» الكندية تقود هذا المجال، وقد بدأت في تشغيل وحدات تجريبية قادرة على التقاط آلاف الأطنان من ثاني أكسيد الكربون سنوياً. لكن التقاط الكربون بهذه الطريقة لا يزال مكلفاً، إذ تتراوح تكلفة الطن الواحد بين 500 و1000 دولار، وتعتمد جدوى هذه التكنولوجيا على توفر مصادر طاقة متجددة ورخيصة لتشغيل المراوح وأنظمة الامتصاص.
هناك أيضاً توجه متزايد نحو استخدام مواد صلبة مثل «المعادن المتفسخة» والمركبات المسامية، حيث يمكن لها أن تمتص ثاني أكسيد الكربون بشكل أكثر كفاءة عند درجات حرارة منخفضة ثم تحريره بسهولة عند التسخين. العلماء يجرون أبحاثاً على مواد مثل الزيوليت والأطر المعدنية العضوية لتقليل استهلاك الطاقة وزيادة قدرة الامتصاص. بالإضافة إلى ذلك، يُبحث في عملية «التعدين الكربوني» التي تعتمد على تعزيز التفاعلات الطبيعية بين ثاني أكسيد الكربون وبعض أنواع الصخور، بحيث يتحول الغاز إلى معادن مستقرة من خلال عملية تسمى «التمعدن». المشاريع الجارية في أيسلندا وآيسلندا تستغل الصخور البازلتية الغنية بالكالسيوم لدفن ثاني أكسيد الكربون وتحويله إلى كربونات صلبة خلال أشهر بدلاً من آلاف السنين.
مع ذلك، يبقى التخزين هو الحلقة الأضعف في سلسلة التقاط الكربون. لعزل ثاني أكسيد الكربون على المدى الطويل، يجب حقنه في تكوينات جيولوجية مستقرة مثل طبقات الحجر الرملي العميقة أو خزانات النفط القديمة. هذه العملية تتطلب دراسات جيولوجية مفصلة لضمان عدم تسرب الغاز مرة أخرى إلى الغلاف الجوي أو تلوث المياه الجوفية. حوادث التسرب السابقة في بعض مشاريع حقن الغاز الطبيعي قد أظهرت أن المخاطر ليست معدومة. كما أن المجتمعات المحلية قد تعارض مشاريع التخزين في مناطقها بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة.
من الجانب الاقتصادي، يرى بعض الباحثين أن الاعتماد على التقاط الكربون قد يؤخر التحول الحقيقي نحو مصادر الطاقة المتجددة ويعطي الصناعات الثقيلة رخصة للاستمرار في الانبعاث. في المقابل، يؤكد آخرون أن تقنيات التقاط الكربون ضرورية، خاصة للقطاعات التي يصعب خفض انبعاثاتها مثل صناعة الأسمنت والصلب والطيران. كما يمكن لإعادة استخدام ثاني أكسيد الكربون في إنتاج الوقود الاصطناعي أو المواد الكيميائية أن يفتح آفاقاً جديدة لاقتصاد دائري للكربون، وإن كانت هذه التطبيقات لا تزال في بداياتها وتحتاج إلى مزيد من التطوير لتكون منافسة اقتصادياً.
ربما يكون الدرس الأهم من تاريخ التقنيات المناخية هو أن الحلول السحرية نادرة. تقنيات التقاط الكربون تعد أداة مهمة، لكنها ليست بديلاً عن خفض الانبعاثات من المصدر، ولا عن تغيير أنماط الاستهلاك والطاقة. نجاح هذه التقنيات يعتمد على مزيج من الابتكار العلمي والسياسات الحكومية والحوافز الاقتصادية، إضافة إلى قبول مجتمعي واسع. في النهاية، يأمل العلماء بأن تسهم هذه التقنيات في سلة متكاملة من الحلول، بدلاً من أن تكون شماعة لتعليق التأخير في مواجهة المشكلة. اختيار الطريق الأنسب يتطلب تقييمات دقيقة خالية من التحيز، وهذا ما تحاول هذه المقالة تقديمه للقارئ العربي.