الدراسات الطويلة المدى وأثرها على تطور العلوم الصحية - 1
ساهمت نتائج الدراسة بقبول عام لنظرية الدهون كحقيقة علمية في نهاية القرن، إلا أن كثير من الشكوك دارت حول منهجية الوصول إلى هذه النتيجة، ووجدت عدة مراجعات علمية أدلة على أن النظام الغذائي لمنطقة البحر الأبيض المتوسط ليس السبب الوحيد لخفض معدلات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، كما أن ربط الدهون المشبعة بشكل مباشر بأمراض القلب يعتبر غير دقيق، وذلك لوجود عوامل أخرى مثل ارتفاع ضغط الدم، والتدخين، والعوامل الوراثية.
هناك مئات من الدراسات طويلة المدى التي نشرت والتي ستنشر مستقبلاً وأسهمت نتائجها في إثراء معرفتنا بالعوامل المؤثرة على الصحة والمرض في مجتمعاتنا كما تعد هذه الدراسات من أهم الركائز العلمية التي يعتمد عليها الباحثون حيث تشكل الأساس لوضع الفرضيات التي يمكن اختبارها والتأكد من صحتها.
وقد أجريت معظم هذه الدراسات في النصف الثاني من القرن العشرين بعضها انتهى وظهرت نتائجه، وبعضها لا يزال مستمراً وبعضها جديد بدأ في الآونة الأخيرة وسيستمر لعدة سنوات. وتعتبر الدراسات التي تم إجراؤها على مجموعات مختلفة من الناس على مدار سنوات طويلة مصدر مهم للبيانات والتجارب التي تعطي الباحثين نوع من المعرفة بتاريخ تطوّر موضوع البحث، فالعلم تراكميّ بطبيعته.
وفي هذه المقال سوف نتطرق لدراسة علمية استمرت لعشرات السنوات، وأظهرت نتائج ذات أهمية صحية واجتماعية ودلالة علمية
وقبل البدء في استعراض هذه الدراسة ينبغي التنويه على أن (الارتباط لا يعني السببية) ، تماماً مثل الطقس الغائم لا يعني بالضرورة سقوط الأمطار، ويحدث الارتباط عندما تظهر نتائج الدراسات علاقة بين عاملين؛ كعلاقة فيتامين C بالشفاء من نزلات البرد، وهذا ليس بالضرورة سبب ونتيجة!
دراسة الدول السبع (The Seven Countries Study)
في أواخر ١٩٥٠م، قام البروفيسور "أنسيل كيز" من جامعة مينيسوتا الأمريكية وفريق دولي من المتخصصين بأول دراسة وبائية (epidemiological studies) متعددة الدول في العالم، شملت سبعة بلدان هي (الولايات المتحدة واليابان وإيطاليا واليونان وهولندا وفنلندا وكرواتيا أو يوغوسلافيا سابقا) وقد درست بشكل منهجي العلاقات بين نمط الحياة، والنظام الغذائي، وأمراض القلب التاجية والسكتة الدماغية بين١٣ألف رجل في منتصف العمر تم اختيارهم عشوائياً من البلدان السبعة، وكانت الفرضية الرئيسية هي أن معدل أمراض القلب والأوعية الدموية لدى السكان والأفراد قد يختلف فيما يتعلق بخصائصهم البدنية ونمط حياتهم، وتربط الفرضية بين الدهون المشبعة و الكوليسترول وخطر الإصابة بأمراض القلب.
كان الباعث لهذه الدراسة هو مشهد سقوط الناس موتى وهم في منتصف العمر في شوارع أمريكا جراء اصابتهم بالنوبات القلبية، مما جعل البروفيسور "كيز" يتساءل عن السبب وراء إصابة بعض الأشخاص من دون غيرهم؟ وعن كيفية حدوث هذا الأمر مع أناس كانوا على ما يبدو بصحة جيدة!
استمرت الدراسة لأكثر من 50 عاما، وأٌلِفَّت فيها عشرات الكتب، ونشر منها أكثر من ٥٠٠ مقال علمي محكم وكانت نتائجها مثيرة للدهشة! بسبب وجود ارتباط بين الصحة والنظام الغذائي لسكان مناطق البحر الأبيض المتوسط والمناطق الآسيوية (اليونان واليابان وجنوب إيطاليا)، حيث سُجلت لديهم أقل معدلات أصابه بأمراض القلب والأوعية الدموية وعاشوا لفترات أطول، ويعود ذلك لأن نظامهم الغذائي يعتمد تقريبا على الأغذية الطازجة والمنخفضة في محتواها من الدهون المشبعة مثل: الخضار والفواكه والأسماك واللحوم الخالية من الدهون، وكانت النشويات المكررة والسكريات نادرة، وكانوا يستهلكون مجموعة واسعة من أنواع النباتات البرية من ضمنها إكليل الجبل أو ما يُعرف أيضاً بالـ "روز ماري"، والذي أشارت عدة دراسات إلى أن الاستهلاك المنتظم له يمكن أن يساعد في الحد من خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية وذلك عن طريق منع انسداد الشرايين وتكوّن الجلطات.
أوحت فيما بعد هذه النتائج لخبير التغذية أنسل كيز إلى اكتشاف ما أصبح يُعرف بحمية البحر المتوسط، وهي توصية غذائية باستهلاك نسبة عالية من زيت الزيتون والبقوليات، والفواكه، والخضروات، واستهلاك كمية معتدلة إلى كبيرة من الأسماك، واستهلاك معتدل من منتجات الألبان (الجبن والزبادي)، واستهلاك نسبة منخفضة من اللحوم ومنتجاتها، ويعتقد أنها مفيدة لكونها منخفضة في الدهون المشبعة وفيها نسبة عالية من الدهون غير المشبعة الأحادية والألياف الغذائية.
في المقابل، أظهرت نتائج الدراسة أن البلدان التي يحتوي نظامها الغذائي على نسبة عالية من الدهون المشبعة مثل فنلندا والولايات المتحدة الأمريكية سُجلت لديهم أعلى معدلات إصابة بأمراض القلب وأعلى مستويات للكولسترول في الدم.
وفي الختام، أثارت الدراسة دهشة كبيرة في الأوساط العلمية وساهمت نتائجها بقبول عام لنظرية الدهون كحقيقة علمية في نهاية القرن، إلا أن كثير من الشكوك دارت حول منهجية الوصول إلى هذه النتيجة، ووجدت عدة مراجعات علمية أدلة على أن النظام الغذائي لمنطقة البحر الأبيض المتوسط ليس السبب الوحيد لخفض معدلات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، كما أن ربط الدهون المشبعة بشكل مباشر بأمراض القلب يعتبر غير دقيق، وذلك لوجود عوامل أخرى مثل ارتفاع ضغط الدم، والتدخين، والعوامل الوراثية.
لا يزال العلماء يستخلصون المزيد من نتائج الدراسة، ولمعرفة أحدث النتائج والمقالات العلمية المنشورة، يمكن زيارة الموقع الإلكتروني الخاص بالدراسة على هذا الرابط: