ب. ف. سكينر: السلوك والتكييف الإجرائي

يستكشف المقال رحلة عالم النفس الأميركي ب. ف. سكينر منذ بداياته ككاتب طموح إلى أن أصبح رائد علم السلوك ومطوّر التكييف الإجرائي. يقدم المقال نبذة عن أهم تجاربه وأفكاره حول التعزيز والعقاب والجهاز الذي اخترعه، بالإضافة إلى تأملات في تأثير نظرياته على العلاج المعرفي السلوكي واستمرار تأثيره على فهمنا للصحة النفسية والسلوك الإنساني في ضوء المسائل الأخلاقية التي أثارها.

ب. ف. سكينر: السلوك والتكييف الإجرائي
تصميم مجازي يرمز لبحث ب. ف. سكينر في التكييف الإجرائي ودراسة السلوك والتعزيز والعقاب


البدايات بين الأدب والعلم

عاش فريدريك سكينر طفولة مفعمة بالخيال في بلدة صغيرة بولاية بنسلفانيا. كان يحلم بأن يصبح كاتباً عظيماً، لا يهتم بالعلوم بقدر ما يهتم بالرسم والأدب. لكن الظروف قادته إلى دراسة علم النفس بعد سنوات من الكتابة غير المثمرة. اكتشف أن سحر اللغة لا يكمن في الكلمات نفسها بل في قدرتها على تحريك السلوك، فأدرك أن فهم النفس البشرية لا يتحقق عبر التأمل الباطني، وإنما عبر ملاحظة ما يفعله الناس وكيف يتغيرون عند تلقي التعزيز أو العقاب.

رفض العقل الباطن وبناء السلوكية الراديكالية

خلال دراسته وبحوثه، تأثر سكينر بأعمال بافلوف وواطسون لكنه ذهب أبعد: فلا مكان للنية أو للعقل الباطن. الإنسان عنده نتاج بيئته، وسلوكه يتشكل باستمرار عبر العواقب. هكذا ولدت السلوكية الراديكالية التي ترى أن الشخصية والتعلم تتكونان من علاقة بين المحيط والسلوك ونوع التعزيز الذي يعقب الفعل.

التجارب والأجهزة: صندوق سكينر والتسجيل التراكمي

لكي يختبر نظرياته، اخترع جهازاً بسيطاً يدعى صندوق سكينر، يوضع فيه فأر أو حمام ويتعلم الضغط على رافعة للحصول على طعام. هنا برز مفهوم التعزيز: كل فعل يعقبه مكافأة يتقوى، وكل فعل يعقبه عقاب يضعف. حتى التعزيز العشوائي يولد سلوكيات غريبة عندما تحصل الحيوانات على الطعام مصادفة، ما يدل على قوة المكافأة ولو لم تكن مقصودة. كما اخترع مسجلاً تراكمياً لتدوين كل استجابة وزمنها ودرس جداول التعزيز التي تحدد سرعة التعلم وثباته. وطور “آلة

رؤى اجتماعية وإثارة الجدل

لم يكن سكينر عالماً مختبرياً فقط، بل كان فيلسوفاً اجتماعياً. في روايته «والدن تو» رسم مدينة يوتوبية تدار بالتعزيز الإيجابي، وفي كتاب «ما بعد الحرية والكرامة» دعا إلى هندسة المجتمع لتقليل العنف والفقر. هذه الأفكار أثارت جدلاً واسعاً، واتهمه النقاد بأنه يحلم بمجتمع دون إرادة حرة، لكنه دافع بأن الحرية الحقيقية تكمن في خلق بيئات تشجع السلوكيات الإنسانية الحميدة.

إرثه في الصحة النفسية وعلاج السلوك

رغم اعتراضه على المناهج التأملية، ترك سكينر إرثاً عميقاً في علم النفس العلاجي. برامج تعديل السلوك المطبقة في المدارس والمشافي تقوم على مبادئ التعزيز والعقاب التي طورها. كما أثرت أفكاره في العلاج المعرفي السلوكي وعلاج القبول والالتزام، فحيث يعتمد المعالجون على التعرض التدريجي، والمكافأة، وتغيير البيئة لدعم التغيير العميق. بفضله أصبح فهمنا للصحة النفسية يعتمد على ملاحظة السلوك وتشكيله بدلاً من الاكتفاء بتفسيره، وما زالت نظرياته توجه التدخلات العلاجية لعلاج اضطرابات القلق والسلوكيات الإدمانية.

من بداياته ككاتب طموح إلى أن يغدو أحد أكبر علماء النفس في القرن العشرين، يقدم ب. ف. سكينر درساً في قوة التركيز على ما يمكن قياسه وتغييره. في عالم يستمر في طرح أسئلة حول الإرادة والكرامة، تذكرنا أفكاره بأن صحة النفس رهن بالبيئة التي نصنعها لأنفسنا وكيف نكافئ أو نعاقب سلوكياتنا.

التعليم” لتدريب الطلبة خطوة بعد خطوة حيث يحصل المتعلم على تغذية راجعة فورية.