من كنتاكي ديربي إلى نادي ريسكهام
ليست الرياضة مجرد فوز وخسارة، بل مدرسة في القيادة والإدارة والإلهام. من مورينيو إلى غوارديولا، ومن كنتاكي ديربي إلى ريكسهام، يقدّم المقال دروسًا إنسانية في الذكاء الجماعي، وفنّ إدارة التفاصيل، وكيف تحوّلت الرياضة من شغفٍ إلى مشروع وطني واقتصادي، ومن ملعبٍ إلى منصة تصنع الوعي والهوية.

الرياضة ليست عن الفوز فقط.. بل عن التفاصيل الصغيرة
تخيّل المشهد من الأعلى :الملعب يضجّ بالأصوات والأنفاس تتسارع والعدسات تتنقل بين المدرجات والميدان .الكاميرا تقترب ببطء من وجه المدرب وهو يراقب بصمت، كل نبضة في صدره تُقابلها حركة في الميدان.
تتجه الكاميرا إلى الجمهور، وهُم يتغنّون بصوتٍ واحدٍ يملأ المكان:
«الله الله يا منتخبنا… العب يا كابتن، مثلك بلادك ولك الشرف.»
ذلك الهتاف لا يشعل الحماس فقط، بل يُجسّد جوهر القيادة: أن تلعب باسم وطنك وأن تدرك أن كل خطوة على الميدان، هي امتداد لقيمة أكبر منك ومن لحظتك.
وهنا يبدأ المشهد الحقيقي.
فما نراه أمامنا ليس مجرد مباراة، بل درس في الإدارة، في الانتماء، وفي صناعة اللحظة.
قد تظن أن الحديث عن الفرق والمدربين لا يعنيك،
لكن أليست حياتنا اليومية أشبه بفيلمٍ طويلٍ من التحديات؟
كل يوم فيه بداية جديدة، مهمة مختلفة وضوء كشافٍ ينتظر من يقدّم الأداء الأفضل.
ما يفعله المدرب في غرفة الملابس يشبه ما يفعله القائد في غرفة الاجتماعات. وكما يحتاج الفريق إلى رؤية وتحفيز وانسجام،
تحتاج المؤسسات إلى السيناريو ذاته، لكن بلغة أخرى.
ومن هنا يصبح الحديث عن مورينيو أو غوارديولا
ليس مجرد حكاية عن كرة القدم،
بل عن فن إخراج الإنسان نحو دوره ودور فريقه إلى لحظات قريبة من الكمال.
مورينيو.. الإدارة بالروح قبل الخطط
في أول مشاهده، لم يكن نجمًا في الميدان بل ظلًا خلف الكاميرا؛ مترجمًا يتعلّم من كل كلمة.
مورينيو لم يبدأ من الضوء، بل من الممرات المظلمة خلفه،حيث تتكوّن الشخصيات قبل أن تصعد إلى المسرح.
قاد بورتو للفوز بدوري الأبطال عام 2004 بلا نجوم، بل بمجموعة آمنت بقصته قبل خطته.
كان يُخرج المشاعر قبل اللقطات ويفوز لأنه يعرف أن البطولة تبدأ من الإيمان قبل التكتيك.
غوارديولا.. الإدارة بالفكر والفلسفة والنظام
غوارديولا لا يصرخ في الكواليس، بل يرسم المشهد كما يرسم المخرج زاوية الكاميرا.
يرى في كل تمريرة معنى، وفي كل لاعب دورًا محسوبًا.
فريقه يشبه مشهدًا متقن الإضاءة، حيث لا مكان للارتجال، لكن كل لقطة تنبض بالحياة.
نجاحه ليس في الفوز فقط، بل في قدرته على بناء فيلمٍ جماعيٍّ
يجعل كل لاعب يرى نفسه في النص، لا على الهامش.
كنتاكي ديربي.. القيادة بين السرعة والوعي
ما زلت أتذكّر ذلك المشهد كما لو كان من فيلمٍ حيّ.
كنت أدرس في ولاية كنتاكي الأمريكية، وفي أحد مواسم الربيع عام 2013، امتلأت المدينة بالألوان والقبعات الواسعة والأعلام المتمايلة.
كانت الشوارع تنبض بالحماس استعدادًا لسباق كنتاكي ديربي — حدثٍ يختصر النبل والسرعة والفخامة في مشهدٍ واحد.
في تلك اللحظة رأيته كاحتفال ترفيهي مذهل، لكن اليوم، حين أتفكر فيه بعد سنوات، أراه من زاوية مختلفة تمامًا.
لم يكن مجرد سباق خيول، بل درس عميق في القيادة والإدارة.
في الميدان، لا يفوز من يركض بسرعة، بل من يعرف متى يضغط، ومتى يترك المساحة للانطلاق.
الفارس الحقيقي لا يوجّه بالعنف، بل بالإحساس — يعرف متى يثق ومتى يتدخّل ومتى يترك الحصان يعبّر عن طاقته.
تأملت يومها كيف يشبه ذلك ما نعيشه في عالم الإدارة:
التحكم دون قسوة، الحماس دون تهور وأن القيادة في جوهرها ليست سباقًا للسبق،
بل إتقان الإيقاع في طريقٍ طويل.
واليوم، حين أستعيد مشهد الديربي، أدرك أن بعض الدروس لا تُقال في القاعات، بل تُكتب في الميدان… ثم تُفهم بعد سنوات.
كرة السلة.. القيادة بالذكاء الجماعي
في سيناريو آخر، ننتقل إلى ملعب السلة — الإيقاع أسرع، الكاميرا تتبع الحركة بلا توقف.
المدرب فيل جاكسون لا يوجّه فقط، بل يؤلف المشهد.وجعل من مايكل جوردن اسم يخلد أكثر من اسمه هو وهنا يأتي دور القائد الحقيقي كما حصل مع ميسي في حقبة غوارديولا في فريق برشلونه
علّم فريقه أن البطولة ليست في التسديد، بل في التناغم.
حوّل الأنانية إلى حوارٍ جماعيٍّ، كما يفعل المخرج حين يجعل نجومه يضيئون بعضهم بعضًا.
اختلاف الرياضات وتشابه القيادة
تختلف الملاعب، تتبدّل الزوايا، لكن الفكرة تبقى:
كل رياضة فيلمها الخاص.
كرة القدم مشهد جماعي طويل، والسلة مونتاج سريع الإيقاع،
والتنس لقطة ثابتة بين اللاعب ونفسه.
لكن النهاية واحدة:
كل بطولة تبدأ خلف الكواليس، وما يظهر أمام العدسات هو نتيجة لتلك الأعمال.
ريكسهام.. كيف تصنع الإدارة المعجزة
في لقطة أقرب إلى فيلمٍ إنساني، يظهر نادي ريكسهام البريطاني، النادي المتواضع الذي كان يختفي في ظلال الدرجات الدنيا.
حتى جاء الممثلان رايان رينولدز وروب ماكلهيني عام 2021،
ليحوّلا الحلم إلى مشروعٍ واقعيٍّ تُروى قصته للعالم.
لم يأتيا بخبرة كروية، بل بفكر إداري واستثمار تسويقي. رأيا في النادي منصةً لخلق هويةٍ جديدة، تجمع بين الرياضة والإعلام، والمجتمع المحلي.
حوّلا المشجعين إلى شركاء والملعب إلى مسرحٍ تروى فيه القصص، كما يحدث حاليا مع رئيس نادي الخلود
ليصبح الفريق نموذجًا لما يمكن أن تصنعه الرؤية عندما تُدار بروح إنسانية.
ريكسهام لم يكن مجرد نادٍ لكرة القدم، بل قصة عن الإيمان بالفكرة وعن كيف يمكن لقرارٍ إداريٍ واحد أن يوقظ مدينة بأكملها.
الرياضة.. من الترفيه إلى مشروع اقتصادي هائل
خلف الكواليس، تُدار الأندية كما تُدار الاستوديوهات الكبرى.
ميزانيات، تسويق، عقود وشركات إنتاج عملاقة.
اقتصاد الرياضة تجاوز 1.5 تريليون دولار،
وفي السعودية أصبحت الرياضة مشروعًا وطنيًا للاستثمار في الإنسان والهوية،
حيث يُكتب المستقبل بخططٍ تشبه إنتاج فيلمٍ ضخمٍ يُشارك فيه الجميع.
من جيل اللعب ومجتمع هواة إلى جيل الاستثمار
جيل الأمس عاش الرياضة كهواية وجيل اليوم يتعامل معها كصناعة،
أما الجيل القادم فسيعيشها كـ لغة حياة.
تمامًا كما كان عصر الإنترنت قبل ظهوره — ها نحن نعيش مشهد “ما قبل التحوّل” في قصةٍ جديدة تُكتب الآن.
لكن وسط كل هذا الضوء، يبقى الدرس الأول هو النصّ الأصلي الذي لا يُعاد كتابته:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾
فالقراءة هي أول لقطة في فيلم الوعي الإنساني.
العلم يصنع الاتجاه، والرياضة تمنحه الحركة.
ومن يجمع بينهما… يكتب النهاية التي لا تُنسى. فهذه نصيحتي لأبناء الجيل القادم.