لماذا اخترت البحث العلمي كمهنة وليس وظيفة؟

سأتحدث في هذا المقال عن أسباب اختياري للبحث العلمي كمهنة وفصله عن الوظيفة

لماذا اخترت البحث العلمي كمهنة وليس وظيفة؟


قبل أن نبدأ في أسباب أختياري لمهنة البحث العلمي والمسارات الوظيفية المتفرعة والمجهولة لها. أود أن أفرق بين الوظيفة والمهنة حيث أن هناك فرق كبير بينهما وفهمنا العام لهذا الفرق. 

الوظيفة مصدر رزق يساعدنا في العيش بكرامة والتكامل مع الاخرين والجهود المؤسساتية وقد لا تكون في المجال الذي نحب أو نبدع فيه ولكنها ضرورة وإتقان التعامل معها مهم جدا على المدى القصير والبعيد.

أما المهنة فهي رسالة حياة تحتاج لوقت لنكتشفها وتستغرق حياتنا كلها في تنميتها وتطورها وصقلها وقد لا تقع داخل نطاق الوظيفة ويجب تنميتها على المدى البعيد ويقود إتقانها لفرص كبيرة من جميع النواحي وتصبح جزء من هويتنا ويعرفنا الناس بها.

كبار العلماء والمبدعين وصلوا لإتقان المهنة وارتبطت بشخصيتهم وعرفوا بها وساهموا في تنمية المهنة. وقد لا يعرف الناس ماهي وظيفتهم اليومية أو مصدر رزقهم. لذلك التركيز على إيجاد الجوانب التي نتقنها وتجلب لنا الشعور بالاستقرار وتنميتها أهم على المدى البعيد من ماهي الوظيفة التي نعمل بها خصوصا في بداية الحياة العملية. ولذلك لا أرى من الصواب أن نقوم بتوجيه الشباب للمهنة، المجال الذي يتخذونه رسالة حياة فيقودهم ذلك مستقبلا لإكتشاف أن ذلك المجال لم يناسبهم. 

وعودة لأسباب أختياري للبحث العلمي كمهنة فهناك عدة عوامل نفسية واخرى تتعلق بالمهارات الفطرية أو المكتسبة في عمر صغير ومن ثم أسباب شخصية متعلقة بالطموح وأخيرا أسباب وجودية متعلقة بمعنى الحياة. فالحقيقة أن توجهي للبحث العلمي  بدأ من شغف المعرفة وحب الإطلاع ومنها بدأت تساؤلات عميقة مثل: من يصنع المعرفة؟ وكيف تتم صناعة المعرفة؟ وماهي مؤهلات من يصنعون المعرفة؟ ولماذا لا أكون أحد هؤلاء الأشخاص الذين يصنعون المعرفة. 

فبعد مدة طويلة وقرب انتهاء حياتي الجامعية في مرحلة البكالوريوس، عرفت أن البحث العلمي هو (مصنع المعرفة) وأن منهجيات البحث العلمي هي أدوات الباحثين في صناعة المعرفة. وكان الأصعب في الموضوع أن مسار البحث العلمي والتميز فيه غير واضح وليس مرتبط بوظيفة متدرجة بالرغم من كون الوظيفة الأكاديمية والأستاذ الجامعي الأقرب للبحث العلمي إلا أنني وجدت أن 60% أو أكثر من المخرجات البحثية التي تتحول لمنتجات في مجموعة دول الـ OECD تتم في القطاع الخاص بعيدا عن مراكز الأبحاث الأكاديمية والجامعات. ويليها مراكز الأبحاث الحكومية غير الأكاديمية وأخيرا الجامعات ومراكز الأبحاث الأكاديمية. هذا المجال الواسع الذي يبدوا مبعثرا من الناحية الوظيفية هو في الحقيقة نظام دقيق ومتكامل يعمل بهدوء في أعماق الحضارة الإنسانية وقريب من أساسها وأصل وجودها. فكان الدافع النفسي هنا هو الرغبة الملحة بصناعة المعرفة ورؤيتها تقرأ وتستخدم في أيدي الناس ويستفيدوا منها في حياتهم اليومية ولا يزال هذا الشعور أحد أهم المحفزات لي للإستمرار والتطور في مجال البحث العلمي. 

هذا الشغف قادني من عمر صغير لتطوير مهارات مكتسبة تعد أساسية لدى الباحثين مثل التعليم الذاتي، تكرار التجارب والإصرار عليها حتى مع فشلها، التعلم من الأخطاء، البحث و الإطلاع، التفكير النقدي والعميق في كيفية واسباب كل شئ. ومع بدء ممارسة المهنة وتجربتها يبدأ الطموح بتنمية الذات في هذه المهنة للوصول لمعايير عملية وأداء متقدم فيها عبر الممارسة اليومية ومعها يتلاشى الخوف من الفشل أو النقد ويبدأ الإنطلاق. ومع الوصول لمراحل التمكن العالي من المهنة تصبح المهنة رسالة ومعنى للحياة ويبدأ معها ممارسة المهنة كرسالة ومحاولة نشرها ودعمها وتصبح جزء من الهوية التي يصعب فصلها عن الشخصية والنظرة للنفس. 

لم أمارس البحث العلمي في البدايات كوظيفة بل كان دافع شخصي كما ذكرت حتى وصلت قريبا من مراحل التمكن. ومع تجربتي للبحث العلمي كهواية ونشوة صناعة المعرفة ونشر الأبحاث وتحويلها لمنتجات، دخلت الحياة الأكاديمية التي يمارس البحث العلمي فيها كجزء من الوظيفة مرتبط بالمحفزات المادية والترقيات الوظيفية وبعد فترة ليست بالطويلة لم أستطع الإستمرار في العمل الأكاديمي حيث كنت أراه عائق لممارسة البحث العلمي مقارنة بتجربتي السابقة في ممارسته كهواية. وبالرغم من أن الكثير من الكتب والمقولات تحتفي بإلتقاء الوظيفة مع المهنة والهواية إلا أنه كان أكثر ما يزعجني هو ممارستي البحث العلمي كمصدر للزرق. فبعد اتخاذ البحث العلمي لي كرسالة حياة ومعنى للوجود كان هناك تناقض كبير بين القيام به كوظيفة ومستوى النضج للبحث العلمي كجزء من هويتي. حينها قررت أن أفصل بين الوظيفة والبحث العلمي وأن اسخر وقتي بعد وقت الوظيفة للبحث العلمي ونشر ثقافته في المجتمع. ومازلت أمارس البحث العلمي وأسعى لنشر ثقافته كل يوم.