العلاج العقلاني الانفعالي: إعادة تشكيل المعتقدات لتحرير الذات من القيود الداخلية

يستعرض المقال فلسفة العلاج العقلاني الانفعالي لألبرت إليس وكيف يساعدنا في تفكيك المعتقدات اللاعقلانية لتحرير الذات وتحسين الصحة النفسية.

العلاج العقلاني الانفعالي: إعادة تشكيل المعتقدات لتحرير الذات من القيود الداخلية
رحلة تفكيك المعتقدات اللاعقلانية وكيف يقود العلاج العقلاني الانفعالي إلى تحرير الذات وتحسين الصحة النفسية.


في ركن مظلم من عقولنا يعيش طاغية صغير لا نراه، لكنه يتحكم في أمزجتنا وتصوراتنا. قد نعتقد أن العالم قاسٍ وأن الناس يتآمرون علينا أو أن الأخطاء الصغيرة دليل على فشلنا الكامل. هذه الأفكار تنبت في طفولتنا وتترسخ عبر التربية والثقافة كما تتجذر الأعشاب الضارة في أرض خصبة. ألبرت إليس، أحد رواد علم النفس الحديث، تشبث بفكرة جريئة: أن هذا الطاغية ليس سوى مجموعة من المعتقدات اللاعقلانية التي يمكن استبدالها إذا تجرأنا على مواجهتها.

ولد إليس في نيويورك عام 1913 ونشأ وسط صخب عصر الكساد الكبير. لم يكن نجاحه سريعاً؛ فقد أمضى سنوات طويلة في مراقبة نفسه والآخرين واكتشف أن الناس لا يتعذبون بسبب ما يحدث لهم بل بسبب تفسيرهم لما يحدث. هذا الإدراك دفعه إلى ابتكار العلاج العقلاني الانفعالي، وهو منهج يجمع بين علم النفس والفلسفة. اعتمد إليس على نموذج «A-B-C»؛ حيث يرمز "A" إلى الحدث المحفز، و"B" إلى المعتقدات، و"C" إلى النتائج الانفعالية والسلوكية. يوضح النموذج أن المعتقدات – وليس الأحداث – هي التي تخلق مشاعرنا. إذا كنت تعتقد أن رفض صديق لك يعني أنك غير جدير بالحب، فإن القلق والحزن سيكونان حتميين. أما إذا أدركت أن الرفض جزء من الحياة ولا يعكس قيمتك، فإنك تتحرر من هذا الطاغية الداخلي.

اعتمد إليس في عمله على أمثلة حية. في إحدى الجلسات، جاءه رجل متزوج يشعر بالغيرة القاتلة كلما لاحظ زوجته تتحدث إلى رجل آخر. كان تفسيره أن الحديث مع الآخرين يعني خيانة متوقعة. ساعده إليس على استكشاف معتقداته وطرح عليه سؤالاً بسيطاً: «هل هناك دليل قاطع يثبت خيانة زوجتك؟». عندما اعترف الرجل بعدم وجود أدلة، بدأ بمواجهة الخيال الذي اختلقه عقله. تعلم أن يغرس عقلاً جديداً يعتمد على التعاطف والثقة بدلاً من التوقعات الكارثية. تحول ذلك الرجل من أسير الغيرة إلى شريك داعم. هكذا تعمل هذه النظرية: ليست مجرد جلسات علاج، بل رحلة لتغيير عدسة الإدراك.

لقد استلهم إليس بعض مبادئه من الرواقيين والفلاسفة القدماء مثل إبكتيتوس، الذين اعتبروا أن الإنسان لا يملك التحكم في الأحداث الخارجية لكنه يملك التحكم في تفسيره لها. كما استفاد من علم الأعصاب الحديث الذي يؤكد أن التفكير المتكرر يخلق مسارات عصبية يمكن إضعافها أو تقويتها. يدعو العلاج العقلاني الانفعالي إلى ممارسة مستمرة: عندما تتسرب إلى ذهنك فكرة لا عقلانية، اكتبها وناقشها كأنك محقق بارع. اسأل نفسك: ما الدليل؟ ماذا يقول الواقع؟ هل تساعدني هذه الفكرة أم تعيقني؟ هذه الأسئلة ليست ترفاً فلسفياً بل أدوات عملية لإعادة تشكيل الدماغ.

إن القوة الخفية لهذه النظرية تكمن في الجرأة على تحدي الذات. بقدر ما يبدو الأمر بسيطاً، فإن مواجهة المعتقدات القديمة تعني الاقتراب من مناطق غير مريحة في أعماق النفس. يتطلب الأمر شجاعة أشبه بشجاعة محارب يقرر خوض معركة مع خصم غير مرئي. لكن المكافأة هائلة: تحرير النفس من قيودها، وزيادة القدرة على التعامل مع الضغوط، وتحسين العلاقات. على الرغم من أن العلاج العقلاني الانفعالي يعتبر أحد أقدم أساليب العلاج المعرفي السلوكي، إلا أنه يبقى راهناً في عصر وسائل التواصل الاجتماعي حيث تنتشر المعتقدات والأفكار بسرعة البرق. فبدلاً من الانجرار خلف الأفكار السلبية التي تتلاعب بنا عبر الأخبار الزائفة أو الصور المثالية، يمكننا أن نستخدم أدوات إليس لتفكيكها وتحويلها إلى فرص للنمو.

في النهاية، يدعوك العلاج العقلاني الانفعالي إلى أن تكون سيد عقلك لا عبداً له. هو يدعوك إلى أن تنظر إلى ما وراء الظلال وأن تكتشف أن الحقيقة ليست في الكلمات التي يهمس بها الطاغية الصغير داخل رأسك، بل في وعيك بقوتك على اختيار ردك. هذه ليست مجرد تقنية علاجية، بل فلسفة حياة تقوم على الشجاعة والصدق مع الذات. إذا كنت تبحث عن سلام داخلي وصحة نفسية مستدامة، فقد يكون طريق إليس هو المفتاح: اكتشف معتقداتك، واجهها، وأعد صياغتها لتصنع حياة أكثر اتزاناً وعمقاً.