مارتن سليجمان: رائد علم النفس الإيجابي ورحلة من العجز إلى الأمل
يستعرض هذا النص مسيرة عالم النفس الأمريكي مارتن سليجمان، بداية من تجاربه حول العجز المكتسب وصولاً إلى تأسيس علم النفس الإيجابي ونموذج PERMA. نتتبع كيف ساهم في تطوير برامج الصحة النفسية وتعليم الرفاه، وماذا تعني رؤاه لمستقبلنا.

البداية والتكوين
ولد مارتن سليجمان في مدينة ألباني بولاية نيويورك عام 1942 وتربى في أسرة يهودية تشجع على الفضول الفكري وحب العلم. التحق بجامعة برينستون لدراسة الفلسفة قبل أن يجذبه علم النفس إلى جامعة بنسلفانيا حيث حصل على الدكتوراه. منذ بداية مسيرته الأكاديمية، كان سليجمان يطرح سؤالاً بسيطاً: لماذا يتركز علم النفس على الأمراض أكثر من تركيزه على بناء الفضائل والقدرات؟ كان يشاهد معاناتة الكثيرين لكنه كان أيضاً يشاهد نماذج لأشخاص ينهضون من تحت ركام الألم ويعيدون بناء ذواتهم. هذا التناقض كان يزرع في داخله بذور مشروع فكري يوازن بين فهم المعاناة وبين دراسة مصادر القوة الداخلية. في طفولته وشبابه، تعلم سليجمان أهمية الإرادة الحرة والمجتمع الداعم، وهي قيم ستظهر لاحقاً في نظرياته حول الرفاهية الإنسانية. كان مفتوناً بالأسئلة الفلسفية حول معنى الحياة، وكانت قراءاته للكتب الدينية والفلسفية تؤثر في فهمه للإنسان. هذه الخلفية المتنوعة شكلت سياقاً خصباً لتطوير مقارباته في علم النفس.
العجز المكتسب: التجارب الأولى
اشتهر سليجمان في السبعينيات بنظرية "العجز المكتسب"، وهي مجموعة من الدراسات التي قام بها مع زملائه في جامعة بنسلفانيا حول ما يحدث للإنسان أو الحيوان عندما يتعرض لصدمات أو تجارب مؤلمة لا يملك السيطرة عليها. في التجربة الشهيرة، كان يتم تعريض الكلاب لصدمات كهربائية لا يمكنهم الهروب منها، ثم يلاحظ الباحثون أن الكلاب تتوقف لاحقاً عن محاولة الهرب حتى عندما تُتاح لها فرصة النجاة. هذا السلوك عرف بـ"العجز المكتسب"، وهو الحالة التي يتعلم فيها الفرد أن جهوده غير مجدية، فيستسلم دون محاولة. وسرعان ما طُبقت الفكرة على البشر، فقد لاحظ الباحثون أن الأشخاص الذين يتعرضون لإخفاقات متكررة أو بيئات تقييدية قد يصابون بحالة من الاستسلام وعدم المحاولة. أدرك سليجمان أن هذا الاكتشاف يمثل جانباً مظلماً من قدرات التعلم وأنه يتطلب أن يجد علم النفس وسائل لمساعدة الناس على استعادة شعورهم بالسيطرة. لقد أثرت هذه النظرية في مجالات العلاج المعرفي والسلوكي وفي فهمنا للاكتئاب والقلق.
من العجز إلى الإمكان: لحظة التحول نحو علم النفس الإيجابي
رغم نجاح أبحاث العجز المكتسب، بدأ سليجمان يشعر بضيق من التركيز المستمر على المرض. وخلال توليه رئاسة الجمعية الأميركية لعلم النفس في نهاية التسعينيات، قرر أن يغير المسار. تقول إحدى الروايات إنه في يوم صيفي بينما كان يلعب مع ابنته البالغة من العمر خمس سنوات، حاول تصحيح سلوكها فواجهته بأن لسانه النقدي جعلها تشعر بالحزن. هذه الملاحظة البسيطة أيقظت داخله فكرة أن التعزيز الإيجابي والتقدير قد يكون أكثر فاعلية من التوبيخ، ليس في التربية فحسب بل في الحياة عموماً. بدأ سليجمان منذ ذلك الحين يدعو إلى "علم النفس الإيجابي"، وهو توجه يبحث في العوامل التي تجعل الحياة جديرة بالعيش: السعادة، الرضا، الأمل، الفضيلة، الإبداع. لم يعد هدف الباحث مجرد علاج المرض، بل مساعدة الأفراد على اكتشاف قوتهم وبناء علاقات داعمة وتكوين أهداف ذات معنى. كان هذا تحوّلاً جذرياً في علم النفس المعاصر؛ فقد أراد سليجمان أن يوازن بين فهم الظلام وفهم الضوء وأن يبني جسراً بين علم النفس العلمي والتراث الفلسفي القديم الذي يحتفي بالفضائل والأخلاق.
نموذج PERMA: إطار متكامل للرفاه
من أبرز مساهمات سليجمان في علم النفس الإيجابي نموذج "PERMA"، وهو اختصار لخمس عناصر يرى أنها أساس الرفاهية النفسية: العواطف الإيجابية، الانخراط، العلاقات، المعنى، والإنجاز. يعني "العواطف الإيجابية" أن الإنسان يحتاج إلى تجارب مشاعر مثل الفرح والامتنان والأمل بشكل منتظم. أما "الانخراط" فيشير إلى حالة التدفّق حيث يندمج الشخص تماماً في نشاط ما فيفقد الشعور بالوقت ويتجاوز ذاته الصغيرة. والعلاقات تشير إلى أهمية الروابط الاجتماعية، فالإنسان كائن اجتماعي يستمد من الروابط الأسرية والصداقات والشراكات المهنية الغذاء النفسي. أما "المعنى" فهو الشعور بأن للحياة هدفاً يتجاوز الذات، وهو ما يمنح الأفعال بعداً أخلاقياً وروحياً. والعنصر الأخير هو "الإنجاز"، أي الشعور بالفخر لإنجاز هدف أو مهمة ومواصلة السعي نحو التحسين. يرى سليجمان أن هذه العناصر الخمسة تتفاعل بطرق معقدة، وأن تعزيز كل منها يساهم في بناء حياة مزدهرة. النموذج ليس وصفة سحرية بل إطار يوجه الأفراد للتفكير في جوانب حياتهم ومراجعة ما ينقصهم لتحقيق توازن صحي بين العمل والحب واللعب.
الانتقادات والتحديات الفكرية
لم تكن دعوة سليجمان إلى التفكير الإيجابي سلمية تماماً، فقد واجهت انتقادات من بعض علماء النفس والفلسفة الذين اعتبروا تركيزه على السعادة مبالغاً فيه أو متجاهلاً للظروف الاجتماعية والسياسية التي تسبب المعاناة. هناك من اتهم علم النفس الإيجابي بتعزيز فكر "السعادة الإلزامية" الذي قد يزيد الضغط على الأفراد ليبدوا متفائلين حتى عندما يمرون بأزمات حقيقية. كما أشار نقاد آخرون إلى أن النموذج لا يأخذ في الاعتبار الاختلافات الثقافية، فمعنى الرفاه يمكن أن يختلف بين مجتمعات تقدر الانتماء الجماعي وأخرى تركز على الإنجاز الفردي. لكن سليجمان رد بأن علم النفس الإيجابي لا يُغفل الألم بل يضيف بُعداً جديداً لعلم النفس التقليدي، وأن تركيزه على الفضائل والقوة لا يعني إنكار الظلم بل العمل جنباً إلى جنب مع العلوم الاجتماعية للتأثير في السياسات العامة. هذا الحوار بين المؤيدين والمعارضين أعطى المشروع عمقاً وساهم في تطويره ليصبح أكثر شمولاً وحساسية للسياقات المتنوعة.
إرث يتجدد عبر الأجيال
مع مرور العقود، أصبح مارتن سليجمان شخصية محورية في الحقول الأكاديمية والسياسية، فقد كتب العديد من الكتب التي تُرجمت إلى عشرات اللغات ودرّس آلاف الطلبة وتعاون مع حكومات ومنظمات لوضع برامج لتعزيز الصحة النفسية في المدارس والجيوش ومؤسسات العمل. استوحى منه معالجون ومربون وباحثون حول العالم، وتم تطوير برامج لزيادة التفاؤل لدى الأطفال، ودورات في الجامعات لتعليم القادة كيفية بناء ثقافات إيجابية. في السنوات الأخيرة، استُخدمت أفكاره لابتكار تدخلات في مجال الصحة العامة لمحاربة الاكتئاب والاضطرابات العقلية من خلال تعزيز مهارات الصمود والتعاطف. ومع كل هذا، يواصل سليجمان تحديث نظرياته وتوسيع أفقها، مؤكداً أن علم النفس الإيجابي ليس مجرد اتجاه عابر بل تحول معرفي طويل الأمد، وأن البحث عن الرفاه يتطلب عملاً داخلياً وجهداً مجتمعياً. إرثه يتمثل في دعوته لنا كي نتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين بلطف، وأن نسعى إلى الحياة الطيبة لا باعتبارها غاية ثابتة بل رحلة مستمرة لاكتشاف ما يجعلنا بشراً.