السمنة في السعودية: بين التحولات الصحية والواقع الاجتماعي
في ظل التحولات السريعة التي تشهدها أنماط الحياة في السعودية، تكشف أكبر دراسة عن السمنة في المملكة والعالم العربي عن مؤشرات مثيرة للتأمل حول ارتفاع معدلات زيادة الوزن وتبعاتها الصحية والاقتصادية. كيف تتغير خريطة السمنة في السعودية؟ وما الذي تعكسه الأرقام عن العادات الغذائية، النشاط البدني، والصحة النفسية؟ هذا المقال يغوص في عمق البيانات ليكشف عن الدلالات الخفية، ويضع السمنة في سياقها الحقيقي كقضية لا تقتصر على الأفراد، بل تمتد إلى بنية المجتمع والسياسات الصحية.

مدخل إلى الأزمة المتفاقمة للسمنة وزيادة الوزن
لم يعد الحديث عن السمنة في السعودية مجرد نقاش صحي، بل أصبح أحد الملفات الحيوية التي تتقاطع مع السياسة العامة، والاقتصاد، ونمط الحياة المتغير في المملكة. البيانات التي تقدمها الدراسات الحديثة تعكس مشهدًا مركبًا، حيث لم تعد السمنة مشكلة فردية تتعلق بخيارات شخصية، بل تحولت إلى ظاهرة مجتمعية لها أبعاد صحية واقتصادية مقلقة.
في حين أن نسبة السمنة في المملكة قد شهدت استقرارًا نسبيًا في السنوات الأخيرة، إلا أن هذا الاستقرار لا يعني بالضرورة تحسنًا في الاتجاهات الصحية، بل قد يكون ناتجًا عن ديناميكيات معقدة تتراوح بين ارتفاع الوعي الصحي وبين استمرار أنماط الحياة غير الصحية التي ترسخت على مدى عقود. وفقًا لبيانات دراسة "Mapping Obesity Trends in Saudi Arabia: A Four-Year Description Study"، والتي تُعد أكبر دراسة عن السمنة على مستوى المملكة والعالم العربي، فقد بلغت نسبة السمنة في السعودية 22.2% في عام 2020، وانخفضت قليلًا إلى 21.4% في عام 2023. هذا الانخفاض الطفيف، رغم كونه مؤشرًا إيجابيًا، لا يزال يضع المملكة في دائرة الخطر، حيث تستمر الأمراض المزمنة المصاحبة للسمنة، مثل السكري وارتفاع ضغط الدم، في تشكيل تحدٍ صحي متنامٍ.
السمنة ليست مجرد رقم على الميزان
لعل أكبر الأخطاء التي يقع فيها صانعو القرار الصحي، والإعلام، وحتى بعض المختصين، هو اختزال السمنة في رقم معين على الميزان أو نسبة مئوية في الإحصائيات. في الواقع، السمنة هي انعكاس لنمط حياة متكامل يتشابك مع العادات الغذائية، ومستوى النشاط البدني، والحالة النفسية، وحتى العوامل الاجتماعية والثقافية.
الدراسة الحديثة تكشف أن ارتفاع معدلات السمنة في السعودية يرتبط بشكل مباشر بنقص النشاط البدني وسوء العادات الغذائية. على سبيل المثال، 91.4% من الأفراد المصابين بالسمنة كانوا أقل من المستوى الموصى به للنشاط البدني المكثف في عام 2023، مقارنة بـ 85.5% في عام 2020. هذه الأرقام تشير إلى اتجاه مقلق، حيث يبدو أن قلة النشاط البدني تتفاقم رغم الحملات التوعوية المتزايدة.
أما من حيث العادات الغذائية، فالصورة لا تبدو أكثر إشراقًا. فوفقًا للدراسة، 92.2% من الأفراد المصابين بالسمنة في عام 2023 لم يستهلكوا كمية كافية من الفواكه، مقارنة بـ 88.8% في عام 2020. هذه الإحصائية تعكس أزمة مزدوجة: أولًا، فشل الأنظمة الغذائية السائدة في تقديم بدائل صحية مستدامة، وثانيًا، صعوبة تغيير العادات الغذائية المتجذرة في الثقافة المجتمعية.
التكلفة الصحية والاقتصادية للسمنة: من يدفع الثمن؟
إذا كان الحديث عن السمنة في الماضي مقتصرًا على الجانب الصحي، فإن أعباءها الاقتصادية اليوم تجعلها أحد الملفات الأكثر إلحاحًا في السياسات الصحية العالمية. وفقًا لتقديرات الاتحاد العالمي للسمنة، فإن التكلفة الاقتصادية العالمية للسمنة قد تصل إلى 4.32 تريليون دولار سنويًا بحلول 2035. المملكة ليست استثناءً من هذا الواقع، حيث تتحمل أنظمتها الصحية عبئًا متزايدًا بسبب الأمراض المزمنة المرتبطة بالسمنة.
تشير الدراسات إلى أن الأفراد الذين يعانون من السمنة في السعودية يواجهون معدلات أعلى من الأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب، مما يزيد من الأعباء المالية على النظام الصحي. فعلى سبيل المثال، نسبة الإصابة بارتفاع ضغط الدم بين المصابين بالسمنة انخفضت من 25.4% في 2020 إلى 20.2% في 2023، إلا أنها لا تزال ضعف النسبة المسجلة بين غير المصابين بالسمنة. وهذا يشير إلى أن المشكلة لا تكمن فقط في انتشار السمنة، بل في استمرار تأثيراتها الصحية حتى مع محاولات العلاج أو التوعية.
أما من حيث تأثيرها على سوق العمل، فإن السمنة لا تؤثر فقط على جودة الحياة الفردية، بل تمتد لتشمل الإنتاجية والاقتصاد الكلي. فقد ثبت أن ارتفاع مؤشر كتلة الجسم (BMI) يرتبط بانخفاض الإنتاجية وزيادة الإجازات المرضية، مما يفرض ضغوطًا على الاقتصاد الوطني.
ماذا وراء الأرقام؟ السياق الاجتماعي والثقافي للسمنة في السعودية
السمنة ليست مجرد قضية طبية أو اقتصادية، بل هي نتاج مزيج معقد من العوامل الاجتماعية والثقافية التي يجب فهمها قبل اقتراح أي حلول مستدامة. المجتمع السعودي، كغيره من المجتمعات الخليجية، شهد تغيرات جذرية في العقود الأخيرة، أثرت بشكل كبير على أنماط التغذية والحركة.
-
التحول إلى الحياة الحضرية
مع زيادة التوسع العمراني، وارتفاع معدلات العمل المكتبي، وانخفاض فرص النشاط البدني في الحياة اليومية، أصبحت الحركة جزءًا هامشيًا من الروتين اليومي لكثير من السعوديين. ففي الماضي، كانت الحياة اليومية تتطلب جهدًا بدنيًا أكبر، سواء في التنقل، أو العمل، أو حتى في الأنشطة الترفيهية. اليوم، تحولت المدن الكبرى إلى بيئات تعتمد على السيارات، والمصاعد، والخدمات السريعة، مما قلل بشكل كبير من النشاط البدني الطبيعي. -
العادات الغذائية: بين التقليد والتجديد
التغير في النظام الغذائي هو أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في زيادة السمنة. فبينما كانت الوجبات التقليدية تعتمد على مكونات طبيعية وموسمية، أصبحت الأطعمة المصنعة والوجبات السريعة جزءًا لا يتجزأ من النظام الغذائي اليومي. تشير الدراسات إلى أن استهلاك المشروبات السكرية والوجبات السريعة في السعودية لا يزال مرتفعًا رغم الضرائب المفروضة على المنتجات السكرية، مما يدل على أن التغيير في السلوك الغذائي يحتاج إلى أكثر من مجرد سياسات تنظيمية. -
التأثير النفسي والاجتماعي للسمنة
السمنة لا تؤثر فقط على صحة الفرد الجسدية، بل تمتد إلى الصحة النفسية أيضًا. فوفقًا للدراسة، 20.7% من الأفراد المصابين بالسمنة كانوا في خطر مرتفع للإصابة بالاكتئاب في 2023. هذه العلاقة بين السمنة والصحة النفسية تخلق حلقة مفرغة، حيث يؤدي الاكتئاب إلى أنماط غذائية غير صحية، وقلة في النشاط البدني، مما يؤدي بدوره إلى تفاقم السمنة.
إلى أين نتجه؟ مستقبل مكافحة السمنة في السعودية
رغم التحديات، هناك مؤشرات إيجابية تشير إلى أن السعودية بدأت في اتخاذ خطوات جادة لمواجهة السمنة. مبادرات مثل رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى تحسين جودة الحياة، والسياسات الحكومية التي تفرض ضرائب على المشروبات السكرية، والتوسع في إنشاء مراكز اللياقة البدنية، كلها خطوات في الاتجاه الصحيح.
ولكن، كما توضح الدراسة، فإن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يعتمد فقط على التشريعات، بل يتطلب تحولًا ثقافيًا طويل الأمد. يجب أن يكون هناك وعي مجتمعي حقيقي بأهمية النشاط البدني والتغذية الصحية، يتجاوز مجرد اتباع "ترند" صحي مؤقت، إلى تحول حقيقي في أسلوب الحياة.
هل يمكن قلب المعادلة؟
السمنة في السعودية ليست مجرد قضية صحية، بل هي مؤشر على تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة. إذا أردنا أن نرى تغيرًا حقيقيًا في معدلات السمنة، فعلينا أن نعيد التفكير في الطريقة التي نتعامل بها مع الغذاء، والحركة، والصحة بشكل عام. لا يكفي فرض الضرائب على المنتجات غير الصحية، ولا إطلاق حملات توعوية مؤقتة، بل نحتاج إلى استراتيجية شاملة تعيد تشكيل العلاقة بين المجتمع والغذاء، بين الصحة والنشاط، وبين الفرد ومسؤوليته تجاه جسده ومستقبله الصحي.
إن السمنة ليست حتمية، بل هي انعكاس لاختياراتنا اليومية. والسؤال الأهم ليس فقط كيف نقلل من نسبة السمنة، بل كيف نخلق مجتمعًا أكثر وعيًا، وأكثر صحة، وأكثر قدرة على التحكم في مستقبله الصحي. هل نحن مستعدون لهذا التغيير؟