المنهجيات العلمية وتصميم الأبحاث : بين التقليدية والحاجة للإبتكار
في الواقع يعتبر مجال البحث العلمي مجال مرن بشكلٍ كبير جداً -طالما أن هناك التزام جاد بأُطر المنهجية العلمية الصحيحة وأخلاقيات البحث العلمي- ولكن تفعيل هذه المرونة في المنظومة الواقعية قد يشكل بعض التحدي للباحثين. فالخروج من دائرة استنساخ تصاميم الدراسات التقليدية يكون عبر تبني فكر الابتكار في تصميم الأبحاث والتجارب العلمية من قبل المنظمات والدعم بقوة من قبل قياداتها العليا، بالإضافة لوجود الجرأة والقدرة على التحدي لدى الفريق البحثي للخروج عن المألوف.
كي نستطيع التعمق في موضوع هذا المقال نحن بحاجة لنتذكر الصراع بين السلطة العلمية والفكر التخطيئي أو المدرسة التخطيئية والتي تم استعراضها بشكل مبسط في برنامج طريق المعرفة. باختصار السلطة العلمية هي التصور الخاطئ بأن العلوم والمعرفة بحاجة إلى سلطة علمية لإثباتها وهو تصوّر يعود للعصور الإنسانية القديمة جداً ولا يزال سائداً. فعلى سبيل المثال في المدارس تُدرس المعرفة على شكل مجموعة من الحقائق وتنسب لسلطة علمية لتأكيدها و الاستدلال على صحتها. فيتحول السعي وراء الحقائق الى سعي خلف الإحساس باليقين. بينما الفكر التخطيئي وهو المعاكس للسلطة العلمية فيرى المعرفة في أحسن حالاتها بأنها مختلطة ببعض الخطأ. فتميل التخطيئية إلى المحاولة المستمرة في تحسين المعرفة. ويشمل ذلك حتى المعارف التي ينظر لها على أنها ناضجة جداً. فالسلطة العلمية تسعى لإيجاد معارف غير قابلة للتغيير وبينما التخطيئية تسعى دائما لإيجاد الأخطاء المعرفية وتحسينها.
ومن هذا المنطلق يوجد مدرستين تهتم بالسلطه العلمية والفكر التخطيئي حالياً في جميع مجالات البحث العلمي من ناحية اتباع المنهجيات العلمية المكتوبة قبل عقود أو قرون وفرضها على الباحثين ومعاداة الإبتكار من قبل مؤيدي فكر السلطة العلمية. وفي المقابل يسعى مؤيدي التخطيئية إلى الإبتكار والتطوير والفصل بين أطر المنهجية العلمية الأساسية وأعمدتها الحقيقية وبين تصميم الدراسات والأبحاث العلمية.
المنهجية العلمية كإطار أساسي هي مجموعة قواعد يجب اتباعها في أي بحث علمي ودراسة وتشمل على سبيل المثال لا الحصر الشفافية، التوثيق الدقيق، المنطق، الأخلاقيات والإنتظام والتنظيم لتكون المخرجات والنتائج قابلة للتكرار من قبل الباحثين الآخرين. ويكمن الخطأ عند مناصري السلطة العلمية في فهم المنهجية العلمية على أنها هي ذاتها عملية تصميم البحث وأنها عمليات فنية وتقنية دقيقة يجب اتباعها بحذافيرها في أي بحث علمي وكأنها خط إنتاج في أحد المصانع. ويعود ذلك لأن بعض المراجع العلمية القديمة لم تفصل بين المنهجية العلمية كمبدأ وإطار تنظيمي للبحث العلمي والتفكير العلمي وبين تصميم الأبحاث والتجارب العلمية. فتصميم الأبحاث والتجارب العلمية يعتمد على الإبتكار وتوفر الموارد بالإضافة لعمليات فنية وتقنية متعددة ومعقدة وقدرات بشرية وتصميم مميز مختلف لكل دراسة حسب متغيرات كثيرة أهمها قدرات الفريق العلمي والموارد المتوفرة لديه. الإبتكار في تصميم الأبحاث العلمية يشبه إلى حد ما الفن التشكيلي، حيث أن كل فنان -أو فريق بحثي- له بصمات واضحة ومميزة تميزه عن الفنانين الآخرين ولكن فنه يبقى ضمن إطار نمط المدرسة الفنية التي يعبر من خلالها.
ولكن المهم أن تصميم الأبحاث والدراسات والتجارب يجب أن يكون ضمن إطار المنهجية العلمية ويوثق متطلباتها في الوصف الدقيق للعمليات والإفتراضات والأدوات وطرق جمع البيانات وتحليلها مما يتيح للباحثين مستقبلا تطوير تصميم هذا البحث أو إعادة تكراره. لذلك يكون الخلط بين المنهجية العلمية كإطار وبين تصميم الأبحاث كعمليات تنفيذية عائق ومشكلة تعرقل البحث العلمي وتكبل قدرات الباحثين على الإبتكار والإبداع. فالمنهجية العلمية ليست تصميم عملي جاهز كقالب يجب تكييف كل الأفكار البحثية بداخله. بل هناك حاجة ملحة للإبتكار والتوسع في تصميم طرق بحثية جديدة في كافة المجالات مع عدم الإخلال بالإطار العلمي للمنهجيات العلمية. وللتوضيح أكثر، تتطلب المجلات العلمية المرموقة أن يندرج تحت قسم المنهجية في الورقة العلمية على جزء يسمى بتصميم الدراسة (Study Design) بالإضافة لاختيار العينة البحثية وآلية جمع البيانات إلخ.. جميع هذه الأقسام هي أقسام مرنة في الحقيقة وقابلة للتطوير والابتكار والخروج عن المالوف طالما أنها تقع ضمن إطار المنهجية العلمية الصحيحة.
السلطة العلمية كفكر تطورت وانتشرت بشكل واسع عالميا أكثر من الفكر التخطيئي وخصوصا في الدول النامية لأسباب عدّة، أهمها: 1- إيمان الباحثين بأن العلم مرتبط بالجدية والرجوع للسلطة العلمية ولا ماجال فيه للإبتكار والخروج عن المألوف لتفادي الوقوع في الأخطاء والحرج وفقد المصداقية والسمعة والرصانة العلمية. 2- عدم الفهم الصحيح للمنهجية العلمية كإطار مرن والميل العام للتلقين ومحاولة تبسيط البحث العلمي ووضعة في قوالب سهلة يتم تكرارها بدون التساؤل عن صحتها ومنطقيتها.3- صعوبة الإبتكار في عالم يميل للتلقين والنسخ والاستنساخ من الماضي.
ولو نظرنا للواقع نجد أن أغلب الأبحاث والدراسات التي انتهجت الإبتكار في تصميم الأبحاث والتجارب العلمية حققت نتائجها انتشاراً أوسع ونجاحاً أكبر في الأوساط العلمية والتطبيقات العملية للنتائج في المجتمع والأوساط العملية، وبالرغم من ذلك لا يزال الإبتكار في تصميم الأبحاث والدراسات محدود في منظمات قليلة حول العالم معظمها في الدول المتقدمة. بينما يبقى النمط التقليدي بتقديس تصاميم الدراسات الموثقة في الكتب القديمة والتي يتم تلقينها من جيل إلى آخر على أنها الحقيقة المطلقة هو الشائع. لكنه من الضروري التنبه إلى أن نتائج التميز في هذا التوجه قد تتطلب وقتاً لتنضج وتثمر. حيث أن الدراسات المبتكرة في تصميمها قد تواجه الرفض من قبل المجلات العلمية التي تدار بفكرالسلطة العلمية والشواهد على ذلك كثيرة جداً في تاريخ البحث العلمي العالمي. وسمعنا كثيراً على سبيل المثال بأن أبحاثاً فازت بجائزة نوبل أو غيرها من الجوائز العالمية كانت قد رُفضت من العديد من المجلات العلمية المرموقة ويعود السبب الرئيسي للرفض هو الجانب الإبتكاري في تصميم تلك الدراسات. مما يثبت أن الإبتكار في تصميم الدراسات بما يتناسب مع الواقع المحلي والموارد والإمكانات عوائدة كبيرة جداً.
ومن الأمثلة المحلية الناجحة للإبتكار في تصميم الأبحاث العلمية في السعودية نموذج تشغيل البحث العلمي في جمعية شارك للأبحاث الصحية.حيث تم تبني ثقافة الإبتكار في تصميم الدراسات والأبحاث العلمية مع عدم استعجال النتائج والتعلم من الأخطاء وإعادة المحاولة لتطوير تصاميم مبتكرة للدراسات والأبحاث وتكييفها حسب الموارد المتاحة مع المحافظه على الجودة أو رفعها في كثير من الأحيان.
ومن الأمثلة الرائعة للدراسات المبتكرة في شارك هي دراسة التحقق من التغيير في طعم الدخان الجديد في السعودية بعد تبني المملكة للتغليف الموحد حيث تم تصميم دراسة مبتكرة. تم في هذه الدراسة توظيف تقنية الواقع الإفتراضي وتبني طريقة تفكير من مجال علمي مختلف وبعيد عن موضوع الدراسة لتطبيقه. وقد لاقت الدراسة إشادة في فكرتها من المحكمين ذوي الاختصاص في مجال ابحاث التدخين العالميين ومن العديد من كبار المسؤولين في المملكة. بل إن الفكرة المبتكرة في الدراسة تحولت إلى تطبيق عملي لتنفي أي إدعاء بتغير طعم الدخان الجديد حيث أن أي شخص غير مقتنع بإمكانه تكرار التجربة والتحقق بنفسه من النتائج. الفيديو أدناه يشرح بشكل بسيط فكرة ونتائج الدراسة.
ومن التصاميم البحثية المبتكرة أيضا في جمعية شارك هو مؤشر شارك لصحة المجتمع.والذي قام على العديد من نقاط الإبتكار في تصميمه العلمي بدءاً بكونه نظام رصد متكرر يقيس المؤشرات بشكل ربع سنوي، ونموذج البيانات المبتكر الذي يقسم المؤشرات إلى 3 أقسام سريعة التغيير ومتوسطة التغيير وبطيئة التغيير وعلاقتها ببعضها. وقد قامت شارك بالإستفادة من نظام شارك لصحة المجتمع في رصد وملاحظة العديد من الظواهر والمؤثرات. على سبيل المثال قام فريق أبحاث الأمراض المزمنة بالإستفادة من البيانات في معرفة تأثير الإجراءات الإحترازية لمكافحة جائحة كورونا-19 على الحالة الصحية في المجتمع عبر مقارنة المؤشرات قبل الجائحة بالمؤشرات أثناء الإجراءات الإحترازية وبعد رفعها ووجدت الدراسة نتائج مميزة توثق للمرة الأولى عالمياً تأثير إجراءات مكافحة الجائحة على مؤشرات صحة المجتمع وتعتبر إنذار مبكر لمتخذي القرار على العواقب الصحية الجانبية للجائحة على صحة المجتمع.
ومثال أخير على الإستفادة من مؤشر شارك لصحة المجتمع, وجد الباحثون أن فعاليات الرياض الترفيهية التي نفذتها الهيئة العامة للترفيه في نهاية عام 2019 إلى منتصف الربع الأول من 2020 ضاعفت النشاط البدني لدى سكان مدينة الرياض في ذلك الوقت مقارنة بالأوقات السابقة والأوقات اللاحقة بعد إنتهاء الفعاليات.
في الواقع يعتبر مجال البحث العلمي مجال مرن بشكلٍ كبير جداً -طالما أن هناك التزام جاد بأُطار المنهجية العلمية الصحيحة وأخلاقيات البحث العلمي- ولكن تفعيل هذه المرونة في المنظومة الواقعية قد يشكل بعض التحدي للباحثين. فالخروج من دائرة استنساخ تصاميم الدراسات التقليدية يكون عبر تبني فكر الابتكار في تصميم الأبحاث والتجارب العلمية من قبل المنظمات والدعم بقوة من قبل قياداتها العليا، بالإضافة لوجود الجرأة والقدرة على التحدي لدى الفريق البحثي للخروج عن المألوف. ويتبقى الدور الأكبر على الباحثين في استمرارية الموازنة بين السير على التصاميم التقليدية التي قد لا تكون قابلة للتطبيق في مجتمعاتنا، وبين الإبتكار والتطوير الذي يجعل التجارب العلمية أكثر واقعية ومصداقية بدون التأثير على جودتها.