دراسات استشراف أثر القرارات التنظيمية والتشريعية: حاجة ملحة وليست رفاهية!
الجهات المسؤولة يجب أن تكثف جهودها للبحث عن أصحاب الكفاءة لتنفيذ دراسات استشراف أثر القرارات التنظيمية والتشريعية ووضع آليات لتقييم صحة دراساتهم بغض النظر عن الأسماء أو العلامات التجارية...

انتشرت مؤخرا قصة موت أحد الشوارع التاريخية المهمة في أحد المناطق بسبب تطبيق آلية غير مدروسة لمواقف السيارات في ذلك الشارع. وبالرغم من أن ملابسات القصة غير واضحة، الا أن غياب دراسات استشراف أثر القرارات التنظيمية والتشريعية واضح جداً. ولتوضيح أهمية هذا النوع من الدراسات، سنسرد لكم هذه القصة الحقيقية والتي حدثت في أحد الدول.
"جنة عدن": القرار
كانت توجد في أحد الجزر غابة مبهرة وصفها أحد المؤرخين في صحيفة الجاردين البريطانية عام 1984 بأنها "جنة عدن" وذكر أن في الغابة أشجار وثمار لم يشاهد مثلها في العالم وأنه بالقرب من شواطئها نوافير صغيرة من المياه حينا تشرب منها تجدها عذبة وهي في وسط البحر وكانت تزدهر حولها المزارع والحرف الشعبية وتستقطب عداد لا بأس به من السياح مما خلق بيئة اجتماعية واقتصادية متكاملة ومتناغمة.
قرر المسؤولون عن المدينة تحويل المنطقة إلى وجهة سياحة و أن يتم دفن جزء من الشاطئ وبناء منتجع سياحي مطل على الغابة. وبالفعل بدأت أعمال الدفن والبناء للأبراج السياحية.
إختفاء الغابة: النتيجة النهائية من القرار
وفي منتصف المشروع، وفجأة، ماتت الغابة وتحولت إلى صحراء مقحله وتوقفت ينابيع المياه العذبة على الشاطئ. وتوقف المشروع حتى هذا اليوم! وهُجرت المزارع واختفت الحياة الاجتماعية والسياحية من المنطقة.
الأسباب:
حينما تم التقصي والبحث في هذه الكارثة البيئية والإقتصادية والإجتماعية في تلك المنطقة، وجد الباحثون أن السر وراء اختفاء الغابة وينابيع المياه العذبة في البحر، أنه منذ آلاف السنوات تكونت مجاري مياه عذبة هشة تحت هذه المنطقة. وبسبب ردم البحر وبناء الأبراج وثقلها، ضغطت على هذه المجاري الهشة واقفلتها للأبد بسبب الضغط مما حول مجاري هذه المياه الى مناطق اخرى أو إغلاقها نهائياً.
نعود الان لشرح اهمية الدراسات الاستشرافية لأثر القرارات التنظيمية والتشريعية.
من اساسيات هذا النوع من الدراسات، ان لكل قرار نتائج أولية ونتائج ثانوية:
النتائج الأولية: هي الغاية التي يتوقعها المسؤول أو متخذ القرار كنتيجة من هذا القرار. على سبيل المثال: النتيجة الأولوية في المشروع السياحي في الجزيرة المذكورة هو تعزيز اقتصادها عبر تحفيز السياحة. (النتائج الأولوية في الغالب تنظيرية تعبر عن تطلعات وآمال متخذ القرار)
النتائج الثانوية: هي في الغالب ردة الفعل غير المتوقعة والغير مدروسة التي تنتج فعلياً من القرار وقد تكون ايجابية أو سلبية وحجمها في التأثير أكبر من النتائج الاولية.
وهذا ما يحدث مع الكثير من القرارات حول العالم. حيث تغيب الدراسة المنهجية لآثر القرارات مما يؤدي إلى كوارث غير مقصودة. نقوم عادة في دراسات استشراف أثر القرارات التنظيمية والتشريعية باستخدام هذه الاداة المهمة التي تساعد المسؤولين على اتخاذ قرارات مبنية على الأدلة والبراهين عالية الجودة. ونقوم على تقييم الأثر المتوقع للقرارات التشريعية والتنظيمية على الاقتصاد والسوق والمستهلك. بشكل متكامل وتنتهي بمقارنة الأثر والفوائد المتوقعة مقارنة بالوضع الحالي.
بحيث تعطي متخذ القرار صورة واقعية كاملة عن الأثار الأولية والثانوية المتوقعة وقد تنتهي هذه الدراسات الى أن الوضع الحالي أفضل من العلمية التنظيمية الجديدة أو أن هنالك خيارات تنظيمية اخرى أفضل من القرار الذي يتم دراسته.
ومن الجدير بالذكر أن أحد أكبر أخطاء تنفيذ هذه الدراسات هو بتوكيل الإدارة المسؤولة بتنفيذها حيث أن الإدارة المسؤولة سوف تتحيز لإظهار الحقائق والمميزات التي تدعم القرار الذي تريد اتخاذه، وهذه فطرة بشرية. ولذلك يجب أن توكل هذه الدراسات إلى جهة محايدة. كما تتطلب باحثين لديهم خبرة متنوعة عملية وتطبيقية حيث لا تكفي لتنفيذها الشهادات الاكاديمية والدورات كما أنها يجب ألا تنسد لما يسمى " أبحاث السوق" حيث يندر وجود الباحثين الذين تتوفر لديهم الكفاءة لتنفيذها.
وفي الختام، ومن تجربة شخصية عميقة في هذا النوع من الدراسات، أرى أن الجهات المسؤولة يجب أن تكثف جهودها للبحث عن أصحاب الكفاءة لتنفيذ هذا النوع من الدراسات ووضع آليات لتقييم صحة دراساتهم بغض النظر عن الأسماء أو العلامات التجارية الرنانة.
الكاتب
د. ناصر بن فهد بن دهيم
@nasserdhim