التنافسية السامة
مقال نقدي يتأمل في قيمة العمل كمعنى وجودي لا مجرد كسب مادي، ويحلل العلاقة بين الطموح والمعايير الذاتية، وبين النجاح الحقيقي وثقافة "الأول". يتناول المقال كيف تسهم النزعات النرجسية والمؤسسية السطحية في خلق بيئات علمية واقتصادية هشة، ويدعو إلى التواضع، والعمق، والتميز الهادئ.

العمل ليس مجرد وسيلة للكسب المادي، بل هو حاجة نفسية ووجودية؛ إذ يمنح الفرد شعورًا بأنه كائن فاعل، منتج، ومؤثر في مجتمعه. في العمل معنى، وفي الإنتاج دليل على الحضور، وليس ثمة إنسان بلا قيمة، فكل فرد يحمل في داخله مزيجًا من الصفات الإيجابية والسلبية. نحن لسنا ملائكة، ولا ينبغي لنا الادعاء بذلك. غير أن مسؤولية الآخرين لا تكمُن في محاكمتنا على نقائصنا، بل في قدرتهم على رؤية جوانبنا المضيئة، والتعايش مع ما لا يؤذي منهم من عيوبنا – ما لم تكن تلك العيوب مما لا يطاق ولا يحتمل ضمن حدودهم البشرية.
من أبهى ما يميز مجال البحث العلمي أنه لا يكافئ التكرار، بل يحتفي بالمغايرة والجرأة الذهنية. طرح سؤال بحثي جديد، غير تقليدي، هو في ذاته فعل إبداعي. غير أن هذا الطريق ليس معبّدًا. إنه يتطلب صبرًا، وغربة، وتضحية شخصية، وربما انتقالًا من مدينة إلى أخرى أو من قارة إلى أخرى، فقط من أجل الاقتراب من مدرسة بحثية يُرجى منها أثر. الباحث الحقيقي لا يرضى بمنطقة الراحة، بل يرحب باللايقين، ويخوض معركة مع الإخفاقات التي قد تتجاوز الألف محاولة، كي يولد من رحمها نجاح واحد.
تقول كلمات الأغنية الفرنسية لخوليو إغليسياس:
ستضحك يومًا، وتبكي في آخر.
ستعيش يومًا، وتموت في آخر.
يومك قد يكون مشرقًا كالليلك، أو قاتمًا كغسق الخريف.
هكذا هي الحياة... تفرحك لحظة، وتؤلمك أخرى.
النجاح الحقيقي لا يولد من المصادفة، بل من التجربة، والإخفاق، والمقاومة. ولهذا فإن الإنسان الذي نجح بعد أن تجرع طعم الفشل لا يمكنه أن يكون متغطرسًا؛ ذلك أن التواضع يولد من معرفة الذات، لا من التصفيق الخارجي. الغرور، من جهة أخرى، هو سلوك مَن لم ينضج كفاية ليدرك أن قيمته لا تأتي من كونه "أول سعودي/ـة" يفعل أمرًا ما، بل من جودة ما أنجزه وأثره بعيد المدى.
ثمة من يحتفل بكونه أول من أنجز أمرًا ما من أبناء منطقة معينة، وكأن بقية أبناء تلك المنطقة عاجزون. في الواقع، هذا النمط من الاحتفاء ليس احتفالًا بالإنجاز بقدر ما هو إعلان خفي عن التفوق الذاتي على الآخرين. إنه ليس تواضع الباحث، بل زهو النرجسي الذي يظن أنه اخترع الذرة. بينما في العالم المتقدم، نجد الباحث الهادئ، المتواضع، الذي قد يصنع أدوية تعالج البشرية، دون أن يرى ضرورة لإبراز لقبه الأكاديمي حتى عند تكريمه.
التنافسية عندما تمتزج بالغرور تخلق بيئة سامة، لا تُثمر علمًا ولا تُنتج معرفة. إنها معادلة للتقهقر. ما أجمل بيئة علمية يعمل فيها الجميع كأنداد، يثري بعضهم بعضًا، يضيفون ويصححون دون تقليل من الاخرين؛ لأن الهدف هو تقدم الفكرة لا تفوق الشخص.
ينبغي للإنسان أن يتنافس مع ذاته، لا مع الآخرين. أن يسعى لأن يكون أفضل من نسخته السابقة، لا أن يكون "الأفضل" في مجاله، فهذه مفردة وهمية لا وجود لها في عالم متغير متجدد. منطق التطور الشخصي لا يقوم على المقارنة بالآخرين، بل بالتحسّن الداخلي. ومن يدرك هذا المنطق، يحيا حياة أكثر جودة وعلاقات أكثر صدقًا.
نطمح لأن ننشر في المجلات المرموقة، ونفوز بالجوائز الرفيعة، لا لأننا نريد التفاخر بكوننا "الأوائل"، بل لأننا نؤمن أن الطموح لا يتطلب إذنًا من أحد، ولا يكتسب قيمته من التصنيفات المناطقية، بل من التزام الإنسان بمعاييره الداخلية، ومن إحساسه بأن ما يصنعه نابع من وفاء للمعرفة، لا من حاجة لسدّ نقصٍ خفي.
إن تمجيد ثقافة "أول سعودي/ـة" أو "أكبر" و"أكثر" وما شابهها من مقارنات عددية سطحية، لا يُعد احتفاءً حقيقيًا بالإنجاز، بل يعكس نزعة استعراضية اختزلت القيمة في التوقيت، لا في الأثر، وفي الكم، لا في الجودة. هذه النزعة تُنتج بيئة تُكافئ من يرفع الشعار لا من يُعمّق الجوهر، وتمنح التصفيق لمن يظهر لا لمن ينجز.
هذا التمجيد المؤسسي والفردي غير الرشيد يخلق بيئة من التشويش المعرفي والارتباك الاقتصادي، حيث تُصرف الموارد على تلميع الأفراد لا على تمكينهم، وتُبنى مبادرات بهدف إنتاج "رقم قياسي" يُستخدم لاحقًا في التقارير لا بهدف إحداث تغيير نوعي في واقع الناس. فنخسر بذلك البوصلة: إذ يصبح الهدف هو التوثيق الإعلامي لا الأثر المستدام، وتُهمّش المشاريع الجادة لأنها لا تملك خطابًا دعائيًا جذابًا.
أما اقتصاديًا، فإن السعي لتضخيم المنجزات من خلال "التفرد العددي" يفضي إلى توجيه الاستثمار نحو مشاريع تُصمم لتُعلَن لا لتُستثمر، فتغيب العدالة في توزيع الدعم وتُقصى الكفاءات التي تعمل بصمت. وتتحول فرص التمويل إلى مسابقات رمزية لا منصات تنموية، مما يُضعف جودة المشاريع ويحول الاقتصاد المعرفي إلى اقتصاد استعراضي.
إن المقارنات التي تتجاهل السياق ولا تراعي معيار الجودة ولا تحتكم إلى أدوات التقييم المحايدة، تساهم في خلق شعور زائف بالتميز، وتؤسس لثقافة داخل المؤسسات تقوم على المحاباة الرمزية لا على الاستحقاق. هذه بيئة لا تنمو فيها التجارب الأصيلة، بل تتكاثر فيها محاولات تكرار الإنجاز "الرقمي" لا الإنجاز الحقيقي.
جميعنا باحثون، ممارسين صحين ، علماء، وباي تخصصات بالعالم رائعون وكل شخص في الطاولة هنالك ما يضيفه، نطمح للأعلى في كل شيء ولكن لان تلك هي معايرنا وليست لكي نتفوق على بعضنا البعض، ونحصل لقب الأفضل، الأول ، الاروع ...