الهوس بالتحكّم: معضلة بيئات العمل
أثر أنماط التحكم المفرط في بيئة العمل على المهارات الوظيفية والعافية النفسية، ويستعرض كيف تدعو رؤية السعودية 2030 إلى ثقافة عمل قائمة على التمكين والثقة بدلاً من السيطرة والامتثال.

التحكم المفرط وثقافة العمل: بين الانضباط الزائف والتمكين الحقيقي
في كثير من المؤسسات، خاصةً تلك التي تتبنى نماذج تنظيمية صارمة وهرمية، يسود نمط من التحكم المفرط، يُقدَّم أحيانًا تحت شعار "الاحترافية". يتجلى هذا التوجه في التركيز على الانضباط الشكلي، والمبالغة في مراقبة الحضور والانصراف، والانشغال بتفاصيل إجرائية متناهية الدقة، إلى جانب تكليف الموظفين بمهام روتينية قد تفتقر إلى القيمة الفعلية.
ورغم أن الالتزام والانضباط ضروريان، إلا أن تحويلهما إلى أدوات تحكّم يُمكن أن يُقوّض عناصر جوهرية في بيئة العمل مثل الثقة، والمبادرة، والاندماج. إن هذا النوع من التحكم لا يقتل الإبداع فحسب، بل يؤثر أيضًا – بشكل غير مباشر – على العافية النفسية للموظفين. وتشير أبحاث بيئة العمل إلى أن العافية النفسية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإنتاجية والإنجاز الحقيقي، فالموظف السعيد أكثر قدرة على العطاء من الموظف الذي يشعر بالضغط والرقابة المستمرة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم ثقافة العمل داخل المؤسسات، خصوصًا في ضوء رؤية السعودية 2030، التي تسعى إلى تحويل بيئة العمل إلى بيئة تمكينية تقوم على الثقة، لا على المراقبة، وعلى النتائج لا على المظاهر. فالرؤية تهدف إلى تنمية رأس المال البشري، والارتقاء بجودة الحياة، وبناء اقتصاد مزدهر تقوده المهارات الوظيفية المتقدمة، والإبداع، والقيادة الفعالة.
لتحقيق هذا التحول، لا بد من الاستثمار في ثقافة عمل جديدة تُبنى على قيم الحوار، والاستقلالية، وتحفيز الإحساس بالمعنى والدور. ويتطلب ذلك تطوير المهارات الوظيفية لدى القادة والموظفين على حد سواء، بما يشمل مهارات التواصل، والذكاء العاطفي، والتفكير النقدي، واتخاذ القرار، وهي المهارات التي تمكّن الأفراد من العمل بكفاءة دون الحاجة إلى رقابة مستمرة.
إن الانتقال من ذهنية السيطرة إلى ذهنية التمكين ليس مجرد خيار تنظيمي، بل هو ضرورة وطنية تتماشى مع طموحات المستقبل. وإذا أردنا لمؤسساتنا أن تكون انعكاسًا حقيقيًا لرؤية 2030، فعلينا أن نعيد تعريف "الاحترافية" بجرأة، ونتساءل بصدق: من الذي يستفيد حقًا من التمسك بوهم السيطرة؟ وهل ما نراه انضباطًا، هو في الحقيقة عائق أمام بناء بيئة عمل تُطلق الطاقات وتحتضن الكفاءات؟