منصة عقول: حيث تتحرر المعرفة من نخبوية النشر
منصة عقول تفتح آفاقًا جديدة في التواصل العلمي بالعربية، عبر تمكين الكتاب من نشر مقالات علمية رصينة بآلية عادلة، وبقراءات تتجاوز 4000 لكل مقال. تعرّف على قصة مجلة عقول ومنهجيتها المتميزة في دعم الباحثين والمفكرين العرب.

منصة "عقول": ريادة عربية في زمن الصمت المعرفي
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات العلمية والتقنية، وتُحاصر فيه العقول العربية بفيضٍ من المعلومات المعلبة والخطابات الإنشائية، يبرز سؤالٌ جوهري: لماذا لا تزال "التواصل العلمي" – أي قدرة العلماء والمثقفين على إيصال المعرفة بلغة بسيطة ومؤثرة – غائبًا عن الفضاء العربي، لا سيما باللغة العربية؟ هذا السؤال ليس مجرد قلق ثقافي، بل هو مؤشر على أزمة بنيوية أعمق تتعلق بفجوة الثقة بين العلم والمجتمع، وبتواضع أدوات إيصال المعرفة في بيئة مشبعة بالضجيج وفاقدة للمعنى.
رغم ضخامة الإنتاج العلمي في العالم العربي على مستوى الكم، إلا أن معظم هذا الإنتاج يبقى حبيس الأدراج الأكاديمية أو سجين لغات لا تصل للمتلقي العربي العادي. فحين يغيب "برنامج عقول" وتغيب "مجلة عقول" وتغيب منصة ذات رؤية ثقافية عميقة، فإننا نترك المجال مفتوحًا لتسطيح المفاهيم، وتأليه الجهل، وتسويق أنصاف الحقائق. هنا تتجلى أهمية المبادرات المؤسسية التي لا تكتفي بالنشر العلمي فحسب، بل تسعى إلى بناء جسورٍ بين الباحث والعامة، بين المختبر والمقهى، بين النظرية والتطبيق، بين الباحث وإنسانيته.
ولعل من أبرز هذه المبادرات منصة عقول، التي ولدت لا لتكون مجرد مستودع مقالات علمية، بل لتعيد تشكيل العلاقة بين الفرد العربي والمعرفة. أُسِّست المنصة على يد د. نورة الثميري ود. ناصر بن دهيم، وهما من الأسماء التي تحمل حسًا علميًا رفيعًا وفهمًا استراتيجيًا لوظيفة البحث العلمي في النهوض المجتمعي. منذ انطلاق أول مقال فيها بتاريخ 25 فبراير 2021، بدأت المنصة في ترسيخ هوية مختلفة للتواصل العلمي، هوية تنطلق من احترام عقل القارئ العربي وتؤمن بأن تبسيط العلم لا يعني تبسيطه حد التفاهة، بل توصيله بلغة تمزج بين الرصانة والوضوح، بين العمق وسلاسة العرض.
ولعل الندرة التي تعانيها اللغة العربية في مجال Science Communication ليست وليدة نقص في القدرات، بل نتيجة لغياب مؤسسات مثل "عقول" التي تمتلك رؤية بنائية تقوم على ما يمكن تسميته "إعادة هندسة الوعي العلمي العربي". فحين نتحدث اليوم عن التسجيل في منصة عقول فإننا لا نتحدث عن مجرد حساب إلكتروني، بل عن انتماء إلى منظومة فكرية تريد أن تجعل من العلم ممارسة ثقافية يومية، لا سلعة نخبوية.
وقد استطاعت "عقول" خلال فترة زمنية قصيرة – وبعدد مقالات تجاوز 397 مقالاً، و255 مؤلفاً، وقراءة سنوية تتجاوز العشرة ملايين – أن تؤسس لحالة معرفية جديدة يمكن وصفها بأنها صحوة فكرية هادئة ولكن متصاعدة. هذه الإنجازات ليست أرقامًا فقط، بل إشارات إلى تعطش العقل العربي إلى منصة تحترم عقله، وتلبي حاجته للتفسير لا التلقين، للفهم لا التبرير.
عقول: ديمقراطية النشر ومنهجية الإنصاف العلمي
في فضاءٍ عربي غالباً ما تحكمه البيروقراطيات الثقافية، وتُوزَّع فيه فرص النشر بناءً على اعتبارات تتراوح بين "الشهرة" والمحسوبيات، جاءت منصة عقول لتكسر هذه المعادلة المختلة، وتطرح نموذجًا مختلفًا: نموذج الإنصاف العلمي. فبدلاً من أن تكون مجلة عقول امتدادًا لسلطة النخبة أو استنساخًا لمنصات تستعرض أسماءً أكثر مما تستعرض أفكارًا، فتحت الباب لكل من يمتلك القدرة على الكتابة العلمية الرصينة، مهما كانت خلفيته أو مكانته المؤسسية.
ما يميز برنامج عقول حقًا هو أنه لا يشترط الانتماء إلى صالونات فكرية مغلقة، بل يشترط الإيمان بالمعرفة، والإتقان في التعبير عنها. فـالتسجيل في منصة عقول لا يتطلب أكثر من الالتزام بمعايير النشر المنهجية والاحترام الكامل للعقل العربي. وهنا تتجلى رؤية مؤسسي المنصة – د. ناصر بن دهيم ود. نورة الثميري – في تمكين كل عقل جاد من الوصول إلى قارئ جاد، دون وساطات أو أبواب مغلقة.
أبعد من ذلك، تتكفل عقول بما لا تفعله كبرى الصحف والمجلات: فهي توفر إعادة صياغة وتدقيقاً لغوياً مجانيًا لكل مقال يُنشر، في محاولة واعية لأن يكون النصّ مرآةً تعكس كفاءة صاحبه لا إخفاق أدواته. إنه تصحيح عادل لا يُخضع الكاتب للمقصّ، بل يسلّحه به. فالمقال لا يُنشر إلا وقد اكتمل شكلاً ومضموناً، دون أن يُفرغ من جوهره أو يُخضع لرقابة تجميلية تحوّله إلى نص مستأنسٍ عديم النبض.
وتزداد أهمية هذا التوجه حين نعلم أن منصة عقول تضمن – عبر نشرتها البريدية واستراتيجياتها الذكية لتحسين ظهور المقالات على محركات البحث – ما لا يقل عن 4000 قراءة لكل مقال، رقمٌ لا تحققه معظم الصحف الورقية أو المنصات الرقمية التقليدية. والأهم من ذلك: أن عقول تنشر علنًا إحصائيات كل مقال، بشفافية غير معهودة في المنصات العربية التي غالباً ما تخفي نسب القراءة كما تُخفي معايير النشر.
في هذا السياق، لا يمكن اعتبار مجلة عقول مجرد نافذة للنشر، بل يمكن وصفها بأنها عقد اجتماعي جديد بين الكاتب العربي وفضائه المعرفي؛ عقد يحترم المساواة في الفرص، ويعيد ترتيب العلاقة بين النص والقارئ خارج ميزان السوق أو شهية التسويق.
المقال العلمي العربي: من الهامش إلى الصدارة
حين يُذكر مصطلح "المقال العلمي" في السياق العربي، تقفز إلى الذهن صورة نمطية: نص مملوء بالمصطلحات، فقير في الأسلوب، مغلق على فئة ضيقة من القراء. هذه الصورة لم تُبْنَ عشوائيًا، بل تراكمت بفعل مؤسسات أكاديمية لم تُجِد الترجمة بين العقل والواقع، وبين المتخصص والمجتمع. لكن "عقول"، بصفتها منصة لا تؤمن بالحدود الجامدة بين البحث والكتابة، قدّمت تصورًا مغايرًا.
منصة عقول لم تكتب فقط مقالًا جديدًا في تاريخ النشر، بل كتبت تاريخًا جديدًا للمقال. جعلت من "المقال العلمي العربي" نصًا قادرًا على التنفس خارج المختبر، والحوار خارج القاعة الدراسية. في مقالاتها التي اقتربت من 400 مقال، نجد ذلك التوازن الدقيق بين الصرامة المعرفية والروح الإنسانية، بين التوثيق الأكاديمي واللغة الحية.
هذا التحول لم يكن تجميليًا بل جوهريًا: فقد أرست "عقول" نموذجًا يراهن على القارئ العربي لا بوصفه متلقيًا سلبيًا، بل شريكًا في المعنى. فنصوصها لا تتحدث من علٍ، ولا تُنْزِل الفكرة كالوحي، بل تشارك القارئ في فهم الظاهرة، وتحفّزه على التفكير المستقل، وترتقي بذائقته العلمية من الانبهار إلى الفهم، ومن التلقي إلى التفاعل.
وهكذا أعادت منصة عقول تعريف الكتابة العلمية ليس كـ"عرضٍ للمعلومات"، بل كـ"مشروع وعي". مشروع يسائل، ويقارن، ويقترح، ويتأمل. وهو ما يتطلب منظومة نشر لا تكتفي بتحرير النص بل تساهم في تحرير فكر كاتبه أيضًا. ومن هنا نلمس المعنى الحقيقي لكون "عقول" ليست فقط منصة نشر، بل برنامج عقول – أي رؤية متكاملة تتعامل مع الكاتب كفاعل ثقافي لا كمورد محتوى.
ولأنها تأسست على مبدأ الشفافية، كان من الطبيعي أن تكون من المجلات القليلة التي تنشر إحصائيات كل مقال، فتجعل من القراءة حدثًا موضوعيًا لا مجرد انطباع. فكل نص فيها، سواء قرأه ألف شخص أو عشرة آلاف، يملك سجلًا علنيًا يحميه من الادعاء، ويحمي صاحبه من تهميش.
في الختام، يبدو أن "عقول" قد فتحت بابًا كان مغلقًا طويلاً أمام من يكتبون للمعرفة لا للنجومية، وأعادت للمقال العلمي العربي قيمته الأخلاقية والمعرفية، بعد أن كاد يتحول إلى طقس نخبوي أو هامش إعلامي.