الشهادة ليست النهاية بل البداية: ما لم تخبرك به الجامعة عن سوق العمل
التحول من الحياة الجامعية إلى سوق العمل ليس مجرد تغيير في المكان، بل انتقال في المعنى والهوية. في هذا المقال، نفتح أعين الخريج على حقيقة الشهادة، ونرسم ملامح الاحتراف، ونوقظه على أول مسؤولياته: أن يُكمل ما لم تعلّمه الجامعة.

"ليس الانتقال من التخرج إلى الوظيفة مجرد عبور زمني، بل عبور وجودي يختبر من نحن بلا ألقاب جامعية، بل بما نحمله من فهم، واحتراف، ومسؤولية."
في الجامعة، اعتدنا على حدود واضحة: محاضرة تبدأ وتنتهي، واجب يُسلّم، وسؤال يُجاب عنه. كان السياق محكومًا بمنهج، وكان الخطأ جزءًا من التعلّم، لا من المساءلة. لكن بمجرد أن نخطو خارج أسوار الجامعة، تتغير اللغة والمعايير. لا أحد يسأل: كم معدلك؟ بل يُسأل: ماذا تفعل؟ ماذا تضيف؟ كم تتحمّل؟ كم تستحق؟
مرحلة ما بعد التخرج ليست مجرد بحث عن وظيفة، بل هي اللحظة التي نُسحب فيها من منطقة الوضوح الأكاديمي إلى منطقة الضباب المهني، حيث لا يكفي أن تعرف، بل يجب أن تحترف.
أن تحترف، يعني أن تتحول من طالب يُعفى من الخطأ إلى موظف يُحاسب على الإهمال، من متلقٍ للتوجيه إلى صانع لقراراته، من فرد في صفٍ جامعي إلى مسؤول عن جزء من منظومة عمل تتأثر بجودة أدائك.
إن سوق العمل لا يكافئ النوايا بل يكافئ النتائج. ولا يُعذر الجاهل بل يُستبدل. وهنا يبدأ أول امتحان حقيقي: هل وعيك ناضج بما يكفي لتنتقل من طلب الدعم إلى تقديمه؟ من الاتكال على النظام إلى فهم النظام؟ من انتظار التعليمات إلى المبادرة بالحلول؟
نحن لا نبحث عن "وظيفة" كما يظن البعض، بل نبحث عن مكان نمارس فيه جدارتنا، ونُثبت فيه أن شهادتنا ليست نهاية الطريق، بل بدايته. ومن لا يدرك ذلك، سيظل يردد: "لماذا لم أُقبل؟"، بينما العالم يسأل: "ماذا تملك؟".
هذه اللحظة، ما بعد التخرج، لا تقبل الحياد. إما أن ترتفع لمستوى الحياة الحقيقية، أو تبقى في ظل مرحلة انتهت.
إن من أكثر المفاهيم التي تحتاج إلى تصحيح في أذهان الخريجين أن الشهادة الجامعية ليست إثباتًا على الجدارة، بل رخصة مبدئية تؤهلك فقط لدخول الميدان. إنها لا تشهد بكفاءتك، بل فقط بأنك قضيت وقتًا في التعلّم النظري. تمامًا كما يحصل المتدرّب على رخصة قيادة، لكنها لا تعني أنه سائق ماهر أو مسؤول.
الشهادة تقول إنك تعرف "عن" المجال، لا أنك قادر على العمل فيه. السوق لا يهتم بما حفظته، بل بما تترجمه من معرفة إلى نفع. وبين المعرفة والتطبيق، هناك فجوة لا يُجسرها إلا من امتلك مهارات العمل الحقيقية: الالتزام، الفهم السياقي، والقدرة على التعلّم المستمر، وتحمل المسؤولية دون أعذار.
ولذلك، كل من ظنّ أن التخرج يعني الاكتمال، سيتفاجأ بأن أول وظيفة ليست تتويجًا، بل بداية التكوين الحقيقي.