كيف غزت المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة ثقافتنا وصحتنا؟
في هذا المقال، نستعرض البنية التاريخية والنفسية لاستهلاك المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة، ونفكك علاقتها بالسمنة والاضطرابات الأيضية. نقارن بين النسخ السكرية والخالية من السكر، ونكشف كيف تحوّلت هذه المشروبات من نكهات إلى أنماط حياة، ومن اختيارات فردية إلى ظواهر ثقافية تستدعي مراجعة واعية.

لم تعد المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة مجرد خيارات ذوقية عابرة، بل أصبحت مكونات ثابتة في نمط الحياة المعاصر، تتداخل مع العادات الغذائية، وتشكل ملامح الذوق العام، وتؤثر في الصحة السلوكية والبيولوجية للأفراد. في هذه السلسلة، نستعرض النشأة التاريخية لهذه المشروبات، تحولها إلى سلعة ثقافية، آثارها الصحية على المدى البعيد، الفروق بين نسخها السكرية والخالية من السكر، وعلاقتها بالوجبات وأنماط الاستهلاك الجديدة. نستند في ذلك إلى قراءة علمية تحليلية، تضع الظاهرة في سياقها الاستهلاكي الأوسع، وتفتح بابًا للنقد الهادئ والمراجعة السلوكية الضرورية.
المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة – النشأة والتحول
المشروبات الغازية
يعود أصل المشروبات الغازية إلى القرن الثامن عشر في أوروبا، حين بدأ الكيميائيون بتجارب على غاز ثاني أكسيد الكربون وخواصه عند إضافته إلى الماء. وقد اشتهر العالم الإنجليزي جوزيف بريستلي عام 1767 بقدرته على إذابة الغاز في الماء، مما أنتج أول "مياه فوارة". كانت هذه المياه في بداياتها تُروّج كوسيلة لتحسين الهضم، وارتبطت بالمجال الطبي أكثر من ارتباطها بالمجال الغذائي أو الترفيهي.
في القرن التاسع عشر، بدأت تلك المياه الغازية تُضاف إليها مكونات عشبية ونكهات طبيعية، بعضها مأخوذ من تقاليد الطب الشعبي، مثل الكولا وجوزة الكولا والكوكا. وفي عام 1886، ظهرت "كوكاكولا" في ولاية جورجيا الأمريكية، مخلوطة بخلاصة أوراق الكوكا التي تحتوي على الكوكايين (قبل أن يُزال لاحقًا)، بالإضافة إلى الكافيين والسكر. وكان يُروَّج لها في الصيدليات كمقوٍ للأعصاب ومحفز للذهن.
وبحلول بدايات القرن العشرين، انتقلت المشروبات الغازية من رفوف الصيدليات إلى أرفف المتاجر والأسواق العامة. ومع الطفرة الصناعية وتطور تقنيات التعبئة، بدأت شركات مثل "بيبسي" و"كوكاكولا" تروّج لنفسها كرمز للحداثة، وربطت استهلاكها بمظاهر الرفاهية والطبقة المتوسطة الصاعدة. تحوّلت هذه المشروبات تدريجيًا من مادة طبية إلى رمز ثقافي، ومن مشروب علاجي إلى سلعة تجارية واسعة الانتشار.
مشروبات الطاقة
أما مشروبات الطاقة، فقد وُلدت في سياق زمني وثقافي مغاير تمامًا. لم يكن ظهورها نتيجة تطور تدريجي كما هو الحال في المشروبات الغازية، بل جاء كرد فعل على متطلبات العصر الصناعي المتسارع. ظهرت أولى النسخ التجارية في اليابان في أوائل الستينيات، حين طوّرت شركة "تايشو" مشروبًا يُدعى "ليبوفايتان دي"، موجهًا للعمال والموظفين الذين يحتاجون إلى تعزيز طاقتهم خلال ساعات العمل الطويلة.
كان هذا المشروب يحتوي على الكافيين والتورين وفيتامينات B، وقد استُلهمت تركيبته من الثقافة الآسيوية التي تميل إلى العلاج الوقائي وتحفيز الجسم عبر مستخلصات مركزة. لم تكن نكهته محببة للعامة، لكنه لاقى نجاحًا في أوساط محددة.
في التسعينيات، أعاد رجل الأعمال النمساوي ديتريش ماتيشيتز صياغة هذا المفهوم، وأطلق منتجًا مستوحى من النسخة اليابانية تحت اسم "ريد بُل"، لكنه لم يروّج له كمكمل غذائي، بل كمشروب شبابي، مثير، متمرد. ربط "ريد بُل" نفسه بالرياضات القصوى، بالحفلات، وبمفهوم الحياة غير التقليدية. ومع هذه القفزة التسويقية، دخلت مشروبات الطاقة السوق العالمية كمنتجات تَعِدُ المستهلك ليس فقط باليقظة، بل بالتمايز، والتحكم في الإيقاع الداخلي.
وسرعان ما لحقت بها عشرات العلامات التجارية الأخرى، مع تنوع في التركيب والجرعات والمنصات الدعائية، مما أدى إلى تشكل سوق ضخم تقوده مفاهيم الأداء والإنجاز الفوري، لا التغذية أو الصحة العامة.
كيف صنعت المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة وباء السمنة؟
حين نضع كوبًا من مشروب غازي تقليدي تحت المجهر التحليلي، نجد أنه يحتوي في المتوسط على 9 إلى 12 ملعقة صغيرة من السكر المضاف، أي ما يعادل تقريبًا الجرعة القصوى التي توصي بها منظمة الصحة العالمية ليوم كامل من السكر المضاف — وليس من مشروب واحد فقط.
لكن الخطورة لا تكمن في هذه الأرقام وحدها، بل في الطريقة التي يُستهلك بها هذا السكر: إذ إنه لا يأتي مصحوبًا بألياف أو عناصر مشبعة كما هو الحال في الفواكه مثلًا، بل يأتي في صورة سائلة، سريعة الامتصاص، لا يشعر بها الجسد كطعام، ولا يتفاعل معها الدماغ كوجبة. والنتيجة؟ الشعور بالجوع لا يتأثر، فيستمر الإنسان في تناول الطعام بينما هو يستهلك سعرات عالية من السكر في الخلفية.
في مشروبات الطاقة، يتضاعف هذا الإشكال. فإلى جانب الكمية الكبيرة من السكر، تحتوي هذه المشروبات على كافيين بجرعات عالية، وهو ما يؤدي إلى اضطراب توازن السكر في الدم، ويُحدث ما يُعرف بـ"التأثير الارتدادي": يرتفع سكر الدم بسرعة، ثم ينخفض بسرعة، فيُحفّز الجسم لطلب المزيد من السكر. إنها دائرة مغلقة من التحفيز والانهيار، تقود إلى عادات غذائية فوضوية وميلٍ لاشعوري للسكريات.
وقد كشفت الدراسات الوبائية في العقدين الماضيين عن ارتباط واضح بين استهلاك هذه المشروبات وارتفاع معدلات السمنة، لا سيما لدى الأطفال والمراهقين. فالفئة العمرية التي تتعرض بشكل أكبر لحملات الترويج هي ذاتها التي تُبنى لديها العادات الغذائية طويلة الأمد. ولهذا السبب، تُعد المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة واحدة من أكبر مصادر السكر المضاف لدى هذه الفئة، متفوقة على الحلويات والمخبوزات في بعض البلدان.
ومن الناحية الأيضية، فإن تراكم السكر المضاف يوميًا يؤدي إلى اضطراب في استجابة الإنسولين، ويزيد من احتمالات تطور مقاومة الإنسولين، وهي بوابة لكثير من الأمراض المزمنة كداء السكري من النوع الثاني، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب.
أما الجوانب النفسية، فليست بأقل خطرًا: إذ إن الدماغ البشري، حين يتعرض باستمرار لنكهات فائقة التركيز من السكر والكافيين، يعتاد على مستويات مرتفعة من التحفيز، ما يقلل من حساسيته للنكهات الطبيعية، ويصنع ما يُشبه الإدمان السلوكي الذي يُعيد إنتاج نفسه.
ولذلك، فإن الحديث عن هذه المشروبات ليس مجرد نقاش غذائي أو حرية استهلاك، بل هو قضية صحية استراتيجية، تتقاطع فيها علوم الأحياء مع الاقتصاد السلوكي، وتستلزم تدخلات على مستوى الوعي الشخصي والسياسة العامة.
الخالية من السكر هل هي بديل صحي أم مجرد توازن دعائي؟
حين ظهرت المشروبات الغازية الخالية من السكر في الأسواق العالمية، كانت تحمل وعدًا ضمنيًا: "اشرب بلا ذنب"، كما لو أن الخطر يكمن فقط في السكر، وأن إزالة هذا العنصر السحري تعني تحييد الخطر بأكمله. وقد استُقبلت هذه المنتجات بترحيب واسع من شريحة من المستهلكين الذين يسعون لتقليل السعرات دون التخلي عن المذاق.
وبالفعل، من الناحية البيوكيميائية، فإن هذه المشروبات لا تحتوي على سعرات حرارية، ولا ترفع سكر الدم بشكل مباشر، لأنها تستبدل السكر الطبيعي بمحليات صناعية مثل الأسبارتام أو السكارين أو السوفلام. ولهذا، فإنها تُعتبر من منظور محدود "خيارًا أفضل" لمن يعانون من داء السكري أو يسعون للحد من السعرات.
لكن هذا التوصيف البسيط يخفي تعقيدًا أعمق. إذ أظهرت الدراسات الحديثة أن المحليات الصناعية، رغم خلوّها من السعرات، قد تؤثر في توازن الميكروبيوم المعوي، وتُحدث تغييرات في كيمياء الدماغ، مما يُضعف قدرة الإنسان على التمييز بين الطعم الحلو الطبيعي والمصطنع، وقد يدفعه إلى البحث عن المزيد من السعرات في أطعمة أخرى لتعويض "الفراغ الغذائي" الذي تخلفه هذه المشروبات.
وبعبارة أخرى، قد تنجح هذه المنتجات في تقليل السكر من العبوة، لكنها لا تُقلل الرغبة في الحلاوة، بل تغذيها بطريقة خفية، وتُطيل عمر العادة بدلاً من كسرها. إنها لا تُصلح السلوك، بل تبرّره.
وهنا يكمن جوهر المفارقة: حين نُقارن بين المشروب الغازي العادي (المحمّل بالسكر) والخالي من السكر، فإن الثاني يبدو خيارًا أفضل من الأول. لكن المقارنة الحقيقية ينبغي أن تكون بين كليهما وبين البديل الأصيل: المياه الغازية الطبيعية غير المحلاة — وهي مياه تحتوي فقط على ثاني أكسيد الكربون دون إضافات، وتمنح الشعور بالانتعاش دون تحميل الجسم بأي عبء غذائي أو عصبي.
إن الطريق إلى "الخيار الصحي" لا يمر فقط عبر الاستبدال التقني (من سكر إلى محليات)، بل عبر الاستبدال السلوكي والثقافي: أن نُعيد تعريف مفهوم "المشروب" في حياتنا، وأن نتجه تدريجيًا نحو الاعتياد على ما هو أقل إثارة وأكثر صدقًا في علاقته بالجسم.
فالمياه الغازية الطبيعية، رغم كونها أقل لذة في البداية، إلا أنها تمثل بداية تحوّل حقيقي نحو ذوق أكثر اتزانًا، وحياة غذائية أقل انقيادًا لعادات المصنع والإعلان.
كيف أصبحت المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة جزءًا من وجباتنا؟
في منتصف القرن العشرين، ومع صعود الوجبات السريعة بوصفها التعبير الأبرز عن السرعة الصناعية، تسللت المشروبات الغازية إلى موائد الطعام ليس بوصفها مشروبات مستقلة، بل كعنصر مكمّل، بل ومطلوب، يُشترط حضوره لإكمال الطقس الغذائي. لم تعد هذه المشروبات "خيارًا" يُتخذ، بل "جزءًا" من الوجبة، يُدمج تلقائيًا، كما يُدمج الملح أو البهارات في الطبخ.
وقد استند هذا التزاوج إلى منطق مزدوج: فالمشروبات الغازية، بما تحمله من سكر وحموضة، تُنشّط براعم الذوق، وتزيد الإحساس بالنكهات الدهنية أو المالحة، بينما تمنح شعورًا بالانتعاش اللحظي، يُعادل الإحساس بالامتلاء بعد وجبة دسمة. وهكذا، تَحوّل التناول المشترك للبرجر والمشروب الغازي، أو البيتزا ومشروب الطاقة، من صدفة إلى بنية، ومن عادة إلى تقليد اجتماعي متكرر.
أما في مشروبات الطاقة، فقد ارتبطت أكثر بالوجبات غير النظامية — تلك التي تُستهلك في أوقات متأخرة، أو أثناء العمل، أو أثناء قيادة طويلة. لقد أصبحت رفيقة "الوجبة المفككة"، حيث لا يوجد طعام حقيقي، بل خليط من المقويات الصناعية. وهنا تبرز المفارقة: فبدل أن تكون هذه المشروبات وسيلة لدعم الغذاء، أصبحت أحيانًا بديلًا له، تُشرب لا لأنها ضرورية، بل لأنها أسهل، وأسرع، وأقرب إلى نمط الحياة المشغول والمضغوط.
من زاوية علمية، هذا الدمج بين المشروبات عالية السكر والوجبات الغنية بالدهون والكربوهيدرات يُمثل أحد أهم العوامل المسببة للسمنة وتراكم الدهون الحشوية، خاصة إذا تكرّر يوميًا. إذ ترفع هذه التركيبة مؤشر السكر في الدم بشكل حاد، وتحفّز إفراز الإنسولين بصورة مفرطة، مما يُضعف استجابة الجسم ويزيد من مقاومة الإنسولين — بوابة الأمراض المزمنة.
لكن الخطر الأعمق ليس في السعرات وحدها، بل في تثبيت أنماط غذائية تُشجّع على الأكل السريع، والشرب المستمر، دون انتباه، دون تذوق حقيقي، ودون قدرة على التوقف. إنها بيئة غذائية تُربّي على الإفراط، وتُضعف مهارات التمييز بين الجوع الحقيقي والرغبة الحسية المؤقتة. وهكذا، تصبح هذه المشروبات أكثر من مجرد سائل يُشرب، بل "سياقًا غذائيًا" كاملاً، يندمج في الوجبة، ويُعيد تشكيل معنى الأكل في حياتنا.
لقد تكشف من خلال هذا العرض أن المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة ليست مجرد سوائل، بل أدوات لإعادة تشكيل الذوق، وتوجيه العادة، وتغذية نمط حياة متسارع. وإن كانت المشروبات الخالية من السكر تُطرح بديلاً صحياً في ظاهرها، فإن الحقيقة الأعمق تدعونا إلى التفكير في بدائل جذرية، تعيد الاعتبار للماء، للبساطة، ولذوق لا تحكمه المصانع. إن الخيار ليس بين "كوكا دايت" أو "ريد بُل لايت"، بل بين أن نُعيد لأنفسنا قدرتها على التمييز، أو أن نظل نُستهلك باسم الطاقة، ونمرض باسم الانتعاش.