الأدب الرقمي في زمن الآلة: هل انتهى عصر المؤلف الفرد؟

كيف غيّرت التكنولوجيا طبيعة الكتابة والقراءة والإبداع الأدبي؟ يستعرض هذا المقال التحول من الطباعة إلى الرقمنة، وتأثير الذكاء الاصطناعي على فعل التأليف، ويطرح تساؤلات جادة حول مستقبل المؤلف والنص في عصر الأدب التفاعلي والرقمي.

الأدب الرقمي في زمن الآلة: هل انتهى عصر المؤلف الفرد؟
من الورق إلى الكود: كيف تغيّرت الكتابة في عصر التكنولوجيا؟


مع الطفرة التكنولوجية التي يشهدها العالم، لاسيما خلال السنوات القليلة الماضية، شهدت الساحة الأدبية تحوّلاً عميقًا، سواء في إنتاج العمل الأدبي، أو تداوله، أو تلقيه، أو حتى نقده. ويمكن القول، بلا مبالغة، إن ثقافة الكتابة والقراءة اتخذت مسارًا جديدًا، في ثورة تضاهي من حيث الأثر اختراع الكتابة في العصور الأولى، أو ابتكار الطباعة في القرن الخامس عشر.

ورغم أن الشعر والمسرح شكّلا منذ القدم لبنتين مركزيتين في صرح الحضارة الإنسانية، فإن اختراع يوهان جوتنبرج لآلة الطباعة عام 1440، وإطلاقها تجاريًا عام 1450، كان نقطة تحوّل فارقة في تاريخ المعرفة البشرية. فقد جعلت الطباعة الكتابة والقراءة متاحة لقطاعات واسعة من الناس، بعدما كانت حكرًا على الكهنة والنخب. وهكذا نشأت الصحافة، وظهر الكتّاب، وتشكلت مشاهد ثقافية جديدة أخصبت ما نعيشه اليوم من إنتاج فكري وأدبي. وكانت تلك القفزة محفزًا مباشرًا على تطوير التعليم، إذ باتت هناك سلعة معرفية تستدعي متلقيًا مهيأً، فدخلت مهارات القراءة والكتابة في صلب مشروع النهضة الأوروبية.

ثم جاءت النقلة النوعية الثانية: التحول الرقمي وما تبعه من رقمنة في الألفية الجديدة. وهنا من المهم التفريق بين المفهومين. فالتحول الرقمي (Digitization) يعني تحويل المحتوى من الشكل اليدوي أو الورقي إلى هيئة رقمية قابلة للعرض عبر الأجهزة الإلكترونية. أما الرقمنة (Digitalization)، فهي أعمق من ذلك، إذ تشير إلى استخدام الأدوات الرقمية في عمليات الإنتاج ذاتها، بما يتضمن إعادة تشكيل جوهر العمل الأدبي وطبيعة تفاعله مع القارئ.

من هنا، بدأ تحوّل واسع في طبيعة النص، وفعل الكتابة، وتجربة القراءة. فبينما أتاح التحول الرقمي إمكانية الوصول إلى الكتب وقراءتها عبر الأجهزة الذكية، جاءت الرقمنة لتمنح النص تفاعلية جديدة: إمكانية التعليق، المشاركة على وسائل التواصل، عرض المعاني فورًا، وحتى تحوّله إلى وسائط متعددة. لم يعد النص مجرد كلمات مكتوبة، بل أصبح مشروعًا مفتوحًا لدمج الصوت، والصورة، والبعد البصري.

أما فعل الإبداع، فقد خرج من دائرته الضيقة التي كانت تقتصر على "المؤلف الفرد"، ليشمل القارئ أيضًا. ففي التأليف الرقمي، يبدأ الكاتب السرد، لكنه يترك الخيوط بيد القارئ الذي يصوغ، عبر قرارات تفاعلية، حبكة النص ومساراته. وهكذا، لم تعد الكتابة عملية فردية مغلقة، بل تحولت إلى فعل تعاوني، تشاركي، يتداخل فيه المُرسِل والمتلقي في بناء المعنى.

لكن هذا التحول لم يمر دون ارتجاجات في البنية النقدية. إذ يعتمد النقد الأدبي التقليدي على وجود نص ملموس، واضح المعالم، محدد السياقات الزمنية والثقافية والسياسية. أما الأدب الرقمي، بما يحمله من روابط ونصوص فوقية (Hypertexts) وتموضعه في فضاء إلكتروني مفتوح، فقد أعاد تعريف النص ذاته، وطرح أسئلة جديدة حول وحدة العمل الأدبي، وحدود مؤلفه، وموقع القارئ فيه.

وفي عام 2018، صدرت أول رواية مؤلّفة بالكامل من قبل الذكاء الاصطناعي، بعنوان 1 The Road. ومنذ ذلك الحين، توالت الإعلانات عن استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي – مثل ChatGPT وأشباهه – في كتابة القصص، وتأليف الكتب، ونشرها رقميًا لتحقيق أرباح. ومع هذه الطفرة، تُطرح تساؤلات وجودية:
هل نحن على مشارف عصر تُستبدل فيه المشاعر البشرية ببيانات خوارزمية؟ هل سيغدو المؤلف جزءًا من الماضي؟
أم أن الإنسان، كما فعل دومًا، سيعيد ترويض هذه الثورة الرقمية لتصبح أداة تعبير لا بديلًا عن الإبداع الإنساني ذاته؟