كي نكسب الرهان: من أين نبدأ في دعم الابتكار؟

أحد أهم عوامل استمرارية منظومة البحث والتطوير والابتكار وتطويرها هو خلق بيئة تضمن تحفيزها واحتوائها في جميع مراحلها وذلك لضمان استمراريتها حتى في حالات غياب الدعم المؤسساتي لها. يستعرض هذا المقال ستة ممارسات معتمدة علمياً في تحفيز الفكر الإبداعي ......

كي نكسب الرهان: من أين نبدأ في دعم الابتكار؟


أحد أهم عوامل استمرارية منظومة البحث والتطوير والابتكار وتطويرها هو خلق بيئة تضمن تحفيزها واحتوائها في جميع مراحلها وذلك لضمان استمراريتها حتى في حالات غياب الدعم المؤسساتي لها. وهذه البيئة ليست بالضرورة مرتبطة بزمان أو مكان معين لا سيما في المراحل الأولية من رحلة الابتكار، ولكنها مرتبطة بالأفكار وطريقة التعامل مع ظروف الحياة اليومية والقدرة على اتخاذ القرار ووجود الحرية في التنفيذ. وهي تبدأ في سن مبكرة جداً وفي مرحلة الطفولة تحديداً. لأن التربية المبنية على تحفيز الإبداع والتساؤل والتفكير والجرأة سوف تخلق لنا جيلاً شغوفاً بطبعه وفضولي في استكشاف العالم من حوله وغير متردد في طرح ومناقشة أفكاره. ووجود تلك الشخصيات يكون النواة الرئيسية في تشكيل منظومة البحث والابتكار حيث أن شغفهم وإيمانهم بأفكارهم سيكون الدافع الأساسي في تطوير البيئة الابتكارية في المجتمع والحفاظ عليها وخلق حلول تضمن ديمومتها.

قد يتصور البعض أن دعم الابتكار والبحث في سن صغيرة جداً يحتاج إلى وجود عاملين رئيسيين: وجود الطفل النابغة، وتوفير بيئة مكلفة مادياً وعلمياً.

فيما يخص العامل الأول، نجد أن التصور السائد هو أن الابتكار والإبداع تعتبر موهبة يولد بها قلة قليلة من الأطفال بينما في الحقيقة وبناءً على عدة دراسات علمية أهمها دراسة تعرف بـ "دراسة العبقرية الإبداعية" وجدت أن 98% من الأطفال ما بين عمر الثالثة والخامسة هم في الحقيقة مبدعين وتبدأ هذه النسبة بالنزول مع التقدم في السن لأسباب عديدة لا يتسع المجال هنا لذكرها. أما فيما يخص توفير البيئة فهو عامل لا يحتاج إلى تكلفة وتخصصٍ عالٍ بقدر ما يحتاج إلى كمية مناسبة من الاطلاع والاستمرارية حتى مع عدم ظهور أي نتيجة ملموسة على المدى القريب، لأن التغذية الإبداعية هي ممارسة ديناميكية كتدريبات اللياقة البدنية تنمو وتنصقل بالممارسة المستمرة.

بدايةً، وفي المراحل الأولية من تنمية موهبة الابتكار والإبداع لابد من التركيز على تطوير نوعين مهمين من أنواع التفكير كلٍّ على حدة:

التفكير المتقارب (Convergent thinking): ويتم من خلاله الحكم على الأفكار ونقدها وتنقيحها وجمعها وصقلها للخروج بأفكار أفضل، ويحدث ذلك كله من خلال العقل الواعي.

التفكير المتشعب (Divergent thinking): الذي يتم من خلاله تخيل أفكاراً جديدة، أفكار أصلية تختلف عما جاء من قبل وقد تكون غير واقعية أو مستحيلة التطبيق في البداية، ويحدث هذا التفكير غالباً من خلال العقل اللاواعي.

التركيز على تطوير كل نوع بشكلٍ منفرد مهمٌ جداً، لأن تطوير هذين الطريقتين من التفكير في آن معاً قد يخلق في كثير من الأحيان نوعاً من التحدي داخل الدماغ مما ينتج نوعاً من الفوضى بداخله والتي تؤدي بدورها إلى تقليل القدرة على تطوير العملية الإبداعية، وهذا ما يحدث غالباً في البيئات المحوكمة، حيث أن هناك سباقاً مستمراً لتحقيق أفضل مخرجات في أقل وقت ممكن بسبب محدودية توفر البيئة والوقت المتاحين للإبداع. لذلك من المهم التركيز على توفير البيئة الإبداعية وجعلها "أسلوب حياة" لضمان حرية تدفق الأفكار في الوقت المناسب للطفل بحسب ظروف البيئة المحيطة وتوفر العوامل المحفزة للإبداع والابتكار.

بالإضافة إلى ذلك، لابد من التركيز على تطوير المهارات الأساسية الخمسة التي تشكل نواة التفكير الإبداعي وذلك بناء على دراسات عدة قام بها الأكاديمي كلايتون كريستينسن وفريقه البحثي وهي:

1. مهارة الربط وهي القدرة على رسم الروابط بين الأسئلة أو المشكلات أو الأفكار بين المجالات غير المرتبطة ببعضها.

2. مهارة التساؤل وهي القدرة على طرح استفسارات تتحدى ما هو معمول به وتثير رؤى وإمكانيات واتجاهات جديدة.

3. مهارة المراقبة وهي القدرة على الملاحظة والتفكير النقدي وصنع المعنى من الصور والمعلومات المتاحة.

4. مهارة التواصل وهي القدرة على التعرف والتفاعل مع شبكة متنوعة من الأفراد الذين يختلفون بشكل كبير في خلفياتهم ووجهات نظرهم والبحث واختبار الأفكار الجديدة من خلالهم.

5. مهارة التجربة وهي القدرة على تجربة الأفكار والفرضيات والعلوم الجديدة والمخاطرة بإثارة ردات الفعل عبر الحلول والأفكار غير التقليدية.

 

هذه المهارات الخمسة يتم تطويرها عن طريق ستة ممارسات معتمدة علمياً في تحفيز الفكر الإبداعي في مراحل الطفولة، وهي تشكل المظلة الرئيسية التي تندرج تحتها جميع الأنشطة المتعلقة بالإبداع والتطوير والابتكار:

1. التفاعل الاجتماعي:

للتفاعل الاجتماعي دور كبير في تطوير قدرات الطفل على الابداع والابتكار فالأطفال بطبعهم يسعون إلى الاندماج في محيطهم، ووجودهم ضمن مجموعات يشعل لديهم فتيل المفاوضة وحل المشكلات وتقبل الآخرين باختلاف شخصياتهم وآراءهم، كما أنه ينمي بشكل أساسي مهارات التواصل والسيطرة والتحكم في المشاعر

2. الأسئلة والسيناريوهات مفتوحة الأجوبة:

الطفل بطبعه كائن فضولي لا يتوقف عن طرح الأسئلة حيث أنها تشكل الركيزة الأساسية للنمو الإدراكي للطفل، تحدي فكر الطفل وتحفيزه على التساؤل عن طريق الإجابة على سؤاله بسؤال آخر أو بطرح سيناريوهات افتراضية أو واقعية عليه ومناقشة حلولها معه تعتبر محفز قوي للتفكير الإبداعي وتشكل أحد الأعمدة الأساسية لتطوير الفكر التحليلي لديه والقدرة على البحث كما أنها تحرك فضوله بشكل مستمر وتجعله شغوفاً بالبحث والاكتشاف.

3. القراءة:

تشجيع الطفل على القراءة من سن مبكرة يخلق لديه التزاما عالياً وارتباطاً وثيقاً بالمنبع الأساسي للمعارف والعلوم. كما يساعده على تطوير الفكر التحليلي والقدرة على ربط المعلومات وحل المشكلات، لأن القراءة تلعب دوراً أساسياً في توسيع المدارك والمعرفة وزيادة المصطلحات اللغوية، كما أنها الوسيلة الأقرب لإيصال الرسائل للطفل وغرس الأفكار والمبادئ وتحفيز الخيال الذي يشكل الرافد الأساسي للإبداع والابتكار.

4. الفنون:

تساعد الفنون بجميع أنواعها -ابتداءً بالرسم وانتهاءً بالأداء على المسرح- على تطور المهارات الحركية الدقيقة لدى الأطفال. وهي بالتأكيد الوسيلة الأقوى في تنمية الإبداع لديهم كونها الوسيلة الوحيدة التي تحفز كافة الحواس الخمسة. كما أنها وسيلة فعالة للتعبير عن الذات والمشاعر وإظهار التفرد في الشخصية وبناء الثقة في النفس. كون الفنون عالم مفتوح بعدد لا متناهي من الخيارات يعطي الطفل مساحة لا منتهية من القدرة على التطوير والابتكار والإبداع، لذلك من المهم جداً عند ممارسة الفنون عدم وضع أي قيود أو فرض أي قوانين على كيفية ممارستها حتى في حال عدم منطقيتها، حيث أن حرية الممارسة هي المحور الأساسي الذي يبنى عليه الإبداع والابتكار.

5. اللعب:

اللعب هو الركيزة الأساسية للطفولة كونه يعد العنصر الأهم في نمو المهارات الإدراكية والجسدية والعاطفية والمعرفية والنفسية للطفل. وكما في الفنون، من المهم جداً أن يتم التركيز على اللعب غير الموجه من قبل البالغين -مع ضمان وجود حدود السلامة الشخصية- حيث أنه يساعد الطفل على تعلم كيفية العمل في مجموعات، والمشاركة، والتفاوض، وحل النزاعات، وطرح الآراء والتعبير عن الذات، كما يتيح له حرية التخيل والإبداع والتطوير بلا قيود. وبالتالي يكتسب مهارات اتخاذ القرار، والثقة والمرونة لمواجهة التحديات المستقبلية. كما أنه لابد من الإشارة إلى أن اللعب هو النواة الرئيسية التي يتم من خلالها اكتشاف الهوايات والمواهب والتفضيلات الشخصية.

6. التأمل:

خلال مرحلة الطفولة لا يتم ممارسة التأمل بنفس طريقة ممارسته لدى البالغين وبنفس مستوى العمق، ولكن عن طريق ملاحظة ومتابعة العالم من حوله بجميع تفاصيله وتفاعلاته وآليات عمله. تشجيع الطفل ومشاركته في تأمل البيئة المحيطة به ينمي لديه مهارات التحليل والربط، كما يحفزه على الاستكشاف وطرح المزيد من الأسئلة واستيعاب ما يدور في العالم من حوله. فالقدرة على فهم الكون من حولنا ومعرفة نقاط ضعفه ومفاتيح تطويره هي من أهم الصفات التي يحتاجها عالم البحث والابتكار.

ما يميز هذه الممارسات والمهارات هو أن تطبيقها وتطويرها لا يتطلب أي تغيير في نمط الحياة، ولا يحتاج إلى وجود محيط متخصص بدرجة عالية، ولكنه بالتأكيد يحتاج إلى بيئة حرة ومشجعة تنمي الخيال وتعطي المجال للتعبير عن الأفكار والتعلم من الأخطاء والقدرة على النقاش والجرأة على التنفيذ. لذلك في المرة القادمة التي يخبرك فيها أي طفل بأنه "أكل بيضةً بنفسجية أتت من دجاجةٍ خضراء!" اسأله بكل بحماس "وهل كانت لذيذة؟!"