تأملات في الإكتشاف وبناء المعرفة لتطور الإبداع والابتكار في المجتمع
الاكتشاف وبناء المعرفة هما الأساس المتين الذي تستند عليه الحضارات الإنسانية.
"المعرفة هي بداية اللانهائية" - ديفد داوج
إن أكثر ما أتمناه هو الاستمرار في اكتشاف المجهول وتجديد الشجاعة للغوص في أعماقه. اكتشاف المجهول هو أسرع طرق النمو والارتقاء في مراحل الاحتياج الإنساني. الاتجاه للمجهول هو طريق النمو. كلنا مشبعون ومقتنعون بخطورة منطقة الراحة والبقاء فيها ودورها في تثبيط نمونا وحرماننا من الفرص التي تنتظر منا الشجاعة لاكتشافها. إن شجاعة الإنسان على اكتشاف الأرض والعيش في تضاريسها المختلفة والتكيف فيها هو ما نجى البشرية حينما فاضت الأودية وغرق سكانها، وحينما زلزلت الجبال وهوت بقاطنيها.
الاكتشاف وبناء المعرفة هما الأساس الذي يقف عليه الإنسان، هما الميزة التي فضلته على بقية المخلوقات وبدونها فلا وجود لنا، حيث نكون في مرحلة السكون وانعدام الحياة. إن المعجزة الحقيقية التي تحدى الله بها الملائكة في الإنسان هي قدرته على التعلًم والتعمق في المعرفة والبناء عليها، بالرغم من محدودية قدراته الجسدية وقصر عمره. فتاريخ الإنسان الأعظم على الأرض هو إرثه المستمر والكم الهائل من المعرفة التي ولدها من هذا الكون معتمداً على نفسه وقدراته الجسدية المحدودة.
إن من أعظم قدرات الإنسان الفكرية هي قدرته على تفسير الواقع عبر عدد محدود من الحواس البسيطة ومطابقتها مع الحقيقة. ابتداءً من الحقيقة وجوده في هذا الكون إلى بناء المعارف والتقنيات للتحقق من وجود أدق تفاصيل الكون وتحليل منطقيتها وتوافقها.
في مراحل احتياجات النجاة يحتاج الإنسان للتحقق من وجوده الجسدي عبر التأكيد الحسي المناظر معتمداً (النظر، والسمع، واللمس)، فإذا كنت أنت موجوداً وأستطيع استشعارك بهذه الحواس المحدودة، فأنا أيضاً موجود معك في هذا الكون أياً كان. ومن هنا ينطلق الإنسان في تأكيد وجوده عبر التعرّف على الأشياء المادية حوله واكتشافها وتسميتها. ومع استمرار النسل والأجيال تتعلم الأجيال الجديدة من القديمة المعارف والاكتشافات بشكل أسرع، حيث لا حاجة لإعادة اكتشافها، ويمكن بذلك اختصار الوقت وتقليصه. فالمعرفة التي استغرقت مئات السنوات لاكتشافها يمكن تعلمها في دقائق أو ساعات ويستثمر الجيل الجديد الفائض من الوقت في التعمق في فهم هذه المعرفة والاستفادة منها. ولم تكتفِ البشرية بنقل المعرفة التي هي من أهم سمات سمو البشر، بل تعدتها لعمل أنبل من نقل المعرفة، وهو نقل المنهجيات التي استخدمت لاكتشاف المعرفة، والتي استغرقت من البشرية آلاف الأعوام لتعلمها وإتقانها. فأصبح البشر يتنافسون في ثلاثة مجالات مكملة لبعضها البعض وهي: تطوير منهجيات الاكتشاف، تطوير المعارف الجديدة عبر استخدام منهجيات الاكتشاف، وتطوير وسائل استخدام المعارف المكتشفة والاستفادة منها.
إن الإنسان يًولد برغبة الاكتشاف كأحد أقوى الرغبات التي تمكنه من التدرج في الاحتياجات الثلاثة بشكل سليم وصحيح. فيُولد الطفل شغوفا بالاكتشاف وجمع المعارف والتساؤل عن مصدرها وكيفية اكتشافها. إنها فطرة الإنسان أن يتساءل ويكتشف المعرفة ومصدرها وكيفية اكتشافها ومقارنتها وتحليلها مع ما تعلم من معارف ومنهجيات اكتشاف. إن سر الإبداع يكمن في ذلك الشغف بتعلّم واكتساب طرق اكتشاف وصناعة المعرفة وليس فقط بتلقينها ونقلها. فكلما تمكن الإنسان من عمر أصغر من اكتساب وسائل اكتشاف المعرفة وإتقانها زادت فرصه في الإبداع والنمو السليم بين احتياجات الوجود.
إن تعلّم وسائل اكتشاف المعرفة وتجربتها وإتقانها لاستخدامها في نمو الشخص بين مراحل الاحتياج والوصول عبرها لمراحل السمو الإنساني أهم للفرد من استخدامها لاكتشاف المعارف العلمية والعملية. بل إن استخدام المعرفة للتدرج في مستويات النمو هو الطريق السليم للتطور الفردي الذي ينعكس على التطور العلمي والعملي، بحيث يتقن الفرد وسائل اكتشاف المعرفة عبر استخدامها للخروج من مستويات النجاة والتدرج في مستويات النمو ومن ثم يتدرج في استخدامها لكسب معارف علمية وفكرية تنفع المجتمع والإنسانية في مستويات الوجود.
وحيث إن ذروة الشغف بالاكتشاف والتعلّم والتساؤل تكون في مراحل الطفولة ومن أهم سماتها. فمن المهم أن نبقي على جزء من طفولتنا في شخصيتنا مهما بلغ عمرنا. وضع العالم ماسلو الطفولية كإحدى سمات من وصلوا لمراحل تحقيق الذات حيث لم يفقدوا بعض الجوانب الطفولية المرتبطة بالتساؤل البريء والبحث والاكتشاف الفطري أو أعادوا اكتشاف ذلك الجزء من طفولتهم والارتباط به. بتحليل بسيط لبعض الشخصيات الملهمة في عالمنا الحالي مثل "بيل قيتس" و"إيلون مسك" يمكنك ملاحظة وجود اللمحة الطفولية عبر عدم الخوف من طرح الأسئلة الصعبة والشجاعة في طرح الأفكار الجديدة المختلفة تماماً عن الواقع كما لو أنها أسئلة طفل لا يكترث بالواقع.
إنه من الجلي الآن أن المجتمعات التي تشجع الطفل على التساؤل وتعلمه وسائل الاكتشاف ونقد المعارف والحقائق هي المجتمعات التي تقود البشرية في صناعة المعارف والإبداع. إن بداية الطريق لإشعال ثقافة الاكتشاف والإبداع هو تعليم الفرد منذ طفولته طرق التساؤل وطرح الأسئلة وتشجيعه عليها. كما ذكر "وارد بيرجر" في كتابه "سؤال أكثر جمالاً". لدى الإنسان صفات خاصة به في التساؤل عبر الفضول والتخيّل والتحليل والتأمل والتفكر. السؤال قد يعيش في عقلنا لسنوات بدون أن نطرحه على أحدهم أو نتحدث به. السؤال الجيد يحتاج وقت لينضج ويحتاج الإنسان لتعلم مهارة التساؤل. والوعي بما نجهله عبر الإيقان بوجود عالم لا نعرفه أكبر من العالم الذي نعرفه. الأسئلة الجيدة هي وسيلتنا الحقيقية للسير في طرقات المجهول. سؤال واحد جيد قد يعطينا فرصة للحصول على العديد من الإجابات وسنوات من البحث والتعلّم ويقودنا لاكتشافات جديدة، وقد يغير حياتنا. فيما تنهي الإجابات رحلتنا المعرفية، تدفعنا الأسئلة الجيدة للانطلاق والغوص في المعرفة لفهم الكون وزيادة وعينا وتطوير حياتنا وحياة البشرية كاملة.
فان فيليب تعرض لحادث فقد على إثره إحدى ساقيه، وعند خروجه من المستشفى أعطته الممرضة عصا خشبية تنتهي بمطاط، وقالت له هذا صديقك الجديد إنها ساق صناعية بدائية كانت تُستخدم في ذلك الوقت. حينما حاول فيليب المشي بهذه الساق الصناعية تعثر في حجر بحجم حبة البازلاء. وبعد فترة تساءل فيليب إذا كانوا قد وصلوا إلى القمر، هل سيكون من الصعب عليهم صنع ساق صناعية أفضل؟ فبدأ فيليب يبحث عن المتخصصين والأطباء ويسألهم لماذا لا توجد ساق صناعية أفضل. ولكن محاولاته لم تفلح في الحصول على إجابة وبعد زمن عاد السؤال نفسه إلى عقل فيليب، ولكن بطريقة أخرى أفضل من السابقة "هل أستطيع صنع ساق صناعية أفضل؟" هنا كان التحدي ليس مرتبطاً بالآخرين بل بالنفس. هنا كانت الإجابة الأولية في عقله لم لا. بدأ فيليب بدراسة الهندسة وبعد تخرجه بدأ في تصميم ساق صناعية وتجربتها عملياً على نفسه، وفي كل مرة يفشل يسأل "ما الذي استطيع عمله لتحسينها؟" فيقوم بعمل التحسين المطلوب ويجرب مرة أخرى. حتى أصبح فيليب أكثر فرد في العالم ساهم في تقدم صناعة الأطراف الصناعية. لم يقم بحل مشكلته فقط، بل قام بحل مشكلة الآلاف من البشر وعاد بالنفع على البشرية كاملة.
لو استمر فيليب في طرح السؤال بطريقة لماذا لا يقوم بها الآخرون لم تصل هذه الصناعة لما وصلت إليه الآن. ولربما واجه فيليب الرفض والانتقاد من المختصين في ذلك الزمن بأنه يضيع وقتهم، وأن الموجود هو الأفضل وكان يجب عليه التوقف عن طرح أسئلة بلا فائدة لهم. حيث إن سؤاله يمثل انتقاصاً لهم وكأنهم لا يقومون بالجهد الكافي لتطوير الساق الصناعية، وأنها يجب أن تكون قضيتهم. بينما هي في الواقع قضيته هو.
وهنا نلاحظ أمراً مهماً للغاية، فكما توجد بنية تحتية مادية للتطور في المجتمعات مثل الصناعات الأولية، فمثلاً تمثل الصناعة الكيميائية الأولية بتوفير المركبات الكيميائية الرئيسة بداية التطور الصناعي في مجال تطبيقات الصناعة الكيميائية، حيث تتطور منها صناعات ثانوية، مثل صناعة الأدوية والمنظفات. فلا يمكن للصناعة الثانوية، مثل الدواء والمنظفات أن توجد بدون وجود الصناعات الأولية التي تغذيها. وكذلك البنية التحتية الفكرية يجب أن تكون موجودة ومصاحبة للبنية التحتية المادية لضمان تطور المجتمعات وتقدمها. وهي كما ذكرنا تبدأ بالمعارف الأولية، وهي تطوير منهجيات الاكتشاف، ثم الثانوية تطوير المعارف الجديدة عبر استخدام منهجيات الاكتشاف، وأخيراً تطوير وسائل استخدام المعارف المكتشفة والاستفادة منها في الواقع. عدم وجود اتزان بين هذه المراحل الثلاث أو عدم وجود البنية التحتية الفكرية الأولية، وهي تطوير منهجيات الاكتشاف يجعل التطور الفكري محدوداً ومقنناً وتسيطر عليه المجتمعات التي أتقنت البنية التحتية الفكرية الأولية، وتصبح بقية المجتمعات مستخدمة لمنتجاتها الفكرية وتنتظر بتعطش إبداعاتها التقنية والعلاجية موقنة ومقتنعة أن دورها هو الاستخدام والاستهلاك. وأكبر دليل على ذلك المئات من الناس الذي يصطفون عند متاجر شركة أبل كل عام منذ أكثر من 10 أعوام حتى الآن متلهفين لاستخدام آخر ابتكاراتها. وفي المقابل المئات من العلماء في الدول النامية الذين يحضرون بشغف مؤتمراً علمياً في إحدى الدول المتقدمة ليتعرفوا على آخر التطورات في مجالهم بتواضع وإذعان طالب الصفوف الابتدائية أمام معلمه. إنها ليست سخرية القدر، إنها الفرق بين نظام حياة مبني على التلقين والخضوع للسلطة العلمية ونظام حياة آخر مختلف وغريب يعتمد على إعطاء الفرد أدوات الاكتشاف والإبداع ثم يمنحه الحرية للانطلاق في الاكتشاف وصناعة المعرفة.
والصراع بين فكر "السلطة العلمية" والفكر المقابل لها ويسمى "التخطيئية" صراح حضاري يفرضه السيد على العبد والمستعمر على المُستعمر وصاحب المنفعة من الخضوع على الخاضع. السلطة العلمية هي التصور الخاطئ بأن العلوم والمعرفة بحاجة لسلطة علمية لإثباتها يعود للعصور الإنسانية القديمة جداً ولا يزال سائداً. وعلى سبيل المثال في المدارس تدرس المعرفة على شكل مجموعة من الحقائق وتنسب لسلطة علمية لتأكيدها. ولا تزال الأغلبية تنسب المعرفة لاسم الجامعة مثل (قالت أو وجدت جامعة هارفرد). بدلاً من تأكيدها عبر جودة المنهجية العلمية التي استنتجت بها هذه المعرفة. فيتحور السؤال الحقيقي من كيف جاءت هذه المعرفة؟ إلى ماهو مصدرها؟ فيتحول السعي وراء الحقائق سعياً خلف إحساس بالتيقن أو لأجل المكانة الاجتماعية. بينما الفكر التخطيئي وهو المعاكس للسلطة العلمية فيرى المعرفة في أحسن حالاتها بأنها مختلطة ببعض الخطأ. فتميل التخطيئية إلى المحاولة المستمرة في تحسين المعرفة. ويشمل ذلك حتى المعارف التي ينظر لها على أنها ناضجة جداً. فالسلطة العلمية تسعى لإيجاد معارف غير قابلة للتغيير وبينما التخطيئية تسعى دائما لإيجاد الأخطاء المعرفية وتحسينها.
هذه المسألة الفكرية يجب أن ترسخ في عقول طالبي العلم منذ الصغر لخلق مجتمع واعٍ يتعمق في منهجيات بناء المعرفة وينبذ السلطة العلمية التي تغشى الأبصار والعقول. حتى لا يتحول طلب المعرفة إلى طريق سهل يتكئ فيه الفرد على السلطة العلمية، ويغفل الجانب الفكري في كيفية تكوّن هذه المعرفة عبر التحقق من جودتها بالمنهجيات العلمية
وهنا يتجلى أن الاكتشاف والإبداع مرحلة من مراحل السمو، حيث يكون الإنسان منفتحاً فكرياً لاكتشاف المجهول عبر إتقان عملية طرح الأسئلة لنفسه قبل طرحها لغيره. عبر إيقانه أن الأسئلة الجيدة التي يصل لها في اكتشاف المجهول هي أحد أسرار الإبداع والكنز الأهم والأغلى بالنسبة له. إن التعوّد على البحث عن حلول جاهزة لمشكلاتنا أحد مثبطات عملية التساؤل ونمو البنية التحتية الفكرية التي هي في الأساس حجر الارتكاز الذي يُبنى عليه تقدم المجتمعات. إن خصوصية المشكلة واحترامها أهم بكثير من الحل. فحينما تبحث عمن يحل لك مشكلتك بمقابل مادي أنت في الحقيقة تبيع مشكلتك بثمن بخس حيث سيقوم من حلها لك ببيع الحل على المئات غيرك، وكنت أنت أول المستثمرين في نجاحه بدون عوائد استثمارية.
إيقان الإنسان بأن أكبر النعم والخواص التي منحها الله سبحانه له هي العقل، وأنه قادر على حل مشكلاته بنفسه هي مرحلة متقدمة في احتياجات الوجود، حيث يثبت الإنسان وجوده عبر إنتاج المعرفة التي تخدم البشرية وتقلل من معاناتها، إنها أعلى درجات السمو. هنا نتخلص من المحاولات البائسة بإثبات وجودنا عبر التأكيد الحسي أو كمية الممتلكات التي نمتلكها، والتي تتمثل في الأخذ والجمع إلى مراحل التأكيد الفكرية التي تعتمد بشكل كامل على العطاء. فالاكتشاف والإبداع لا يمكن أن يحدثا عبر الأخذ، بل هو عطاء خالص. يؤكد قيمة الإنسان في الكون كله وليس فقط في المجتمع.
في مراحل الوجود وبداية مراحل النمو يمثل الانفتاح للاكتشاف والتجربة مصدر قلق ورعب أحياناً يؤثر على الأمان النفسي والجسدي للفرد والمجتمع، حيث إن اكتشاف المجهول والتجارب الجديدة يأتي برياح التغيير التي قد تبدو مرعبة لمن يحاولون الاستقرار في مرحلة معينة وصلوا لها من مراحل الوجود أو النمو. كما أنها مرعبة لأنها تتحدى السلطة العلمية والمنتفعين بها، مما يجعل هذه الفئة تُكون ردة فعل دفاعية لرغبة الاكتشاف والتجربة داخلياً وتتطور لتصبح حالة ثقافية حينما تنتشر المقاومة للاكتشاف والتجربة في المجتمع. فيبقى المجتمع عالقاً في مرحلة من التوقف الفكري المعادي للتطور والاكتشاف والإبداع. ويُكبت فيه المبدعون وتُمارس ضدهم عمليات تثبيط وإعادة برمجة ليتوقفوا عن التساؤل والاكتشاف وليتوقفوا عن الحياة! إن تاريخ الأنبياء وكبار المفكرين والعلماء الذين لهم التأثير الأكبر في نمو البشرية ورقيها ملئ بالمقاومة السلطوية أو المجتمعية والتنكيل والنبذ، حيث تستفز أفكارهم الأمان الفكري للمجتمع وفي الوقت نفسه تستفز الفئات المتسلطة عبر أدلجة العقول بأفكار معينة تخدم توجهاتهم. وهذا ما يفسر أسباب المعاناة والمعاداة الشديدة التي يلقاها من يأتون بأفكار واكتشافات جديدة في أي مجتمع وفي أي حقبة زمنية.
الانفتاح للاكتشاف والتجربة مرتبط جسدياً بتثبيط إحدى العمليات البيولوجية التي تنظم التفكير ويشترك فيها الإنسان والحيوان، حيث تقوم هذه العملية بترميز الأفكار في مراحل اللاوعي داخل العقل وتحديد المفيد منها ليشغل العقل واللامفيد، لكي يتم مسحه وتتم بشكل كامل بدون وعينا بها. وهي من الفروقات بين الإنسان والحيوان، حيث إن عقل الإنسان أكثر انفتاحاً للأفكار الجديدة من الحيوان ويستطيع الإنسان تكييف هذه القدرة وتثبيطها لكي تتدفق الأفكار بكميات أكبر من مراحل اللاوعي إلى مراحل الوعي، وكلما زادت الأفكار المتدفقة زادت فرص الإبداع والتطور. وتتدرج بالانتقال من مراحل التفكير في حدود ضيقة وإجبار العقل على عدم تجاوزها في مراحل احتياجات النجاة إلى التفكر بدون حدود وكبت غريزة تصفية الأفكار والاتصال الكامل بالكون ومعارفه في مراحل احتياجات الوجود. وحينما يسعى الإنسان لتحفيز عملية التثبيط وزيادة المؤثرات الخارجية والضغوط لمنع المبدعين من التجربة والاكتشاف فإن ذلك يقلل الأفكار وفرص الإبداع. إن الإبداع علامة من علامات التغلب على الخوف من الخروج عن المألوف ومن السكون داخل الصندوق إلى الفرص العظيمة خارجه، إنها نتيجة واقعية للحرية والابتعاد عن محاولات تشكيل جميع أفراد المجتمع بشكل واحد وقالب واحد.
ويختلف الاكتشاف الذي يقود للإبداع عن التعليم والشهادات التعليمية في العديد من الأوجه، ولكن أهمها هو أن الاكتشاف تجارب فردية يخوضها الفرد بدافع ذاتي تعود عليه بمعرفة تجريبية جديدة في الغالب لم يتعلمها في صفوف الدراسة. ولذلك فالشهادات التعليمية أياً كان مستواها في حقيقتها رخصة تمنحنا المهارات وأحياناً الحق القانوني لممارسة تجارب جديدة. وليست علامة على التقدم الفردي في الاكتشاف والإبداع، حيث غالباً تكون دوافع الحصول عليها غير مرتبطة أساساً بالرغبة في الاكتشاف، إنما وسيلة للنمو والحصول على بعض درجات الأمان النفسي أو الانتماء والاحترام أو كسب مادي أفضل.
المعرفة والانفتاح للاكتشاف والتجربة أجنحة من النور تحلق بنا في أرجاء الكون، هي بداية اللانهائية التي انطلقت مع خلق آدم. ولا تحليق بدون حرية منطقية، فأعداء الحرية هم نفسهم أعداء المعرفة.
المقال منقول من كتاب "تأملات في السمو الإنساني" للدكتور ناصر بن دهيم