الإنسانيات الرقمية في عالم ما بعد الكورونا

كانت فترة جائحة الكورونا فترة عصيبة، واستجاب الذكاء البشري من فوره للتعامل مع هذا الموقف الطارئ، إلا أن العقل البشري يظل في محاولة مستميتة ليفهم ما حدث، أي لتفسيره، وفلسفته، ودراسة أبعاده الإنسانية والاجتماعية والنفسية والتاريخية والأدبية. ولنتمكن من فهم واستيعاب هذه اللحظة التاريخية الفارقة، نلجأ مرة أخرى إلى الإنسانيات، في نهضة جديدة، وإحياء لتراث مديد، ولكن في ظل تكنولوجيا وعلم حديث، لتتخذ أشكالاً وأبعاداً وأغواراً جديدة.

الإنسانيات الرقمية في عالم ما بعد الكورونا
الإنسانيات الرقمية في عالم مابعد الكورونا


من الافتراضات الشائعة في عالم اليوم أن الإنسانيات قد ماتت، أو أنها تعاني سكرات الموت الأخيرة، خاصة مع طفرة العلوم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي التي تجتاح العالم في الوقت الحالي، وخاصة في أعقاب جائحة كورونا، التي أدت إلى موجة من الاحتياج إلى التخصصات الطبية والصيدلانية والهندسية لمواجهة مرض لم يفهمه البشر، والوفاء باحتياجات إلكترونية جديدة لضمان استمرار الحياة العملية والتعليمية والمالية والتسويقية والأكاديمية، بل والاجتماعية.

كانت فترة جائحة الكورونا فترة عصيبة، واستجاب الذكاء البشري من فوره للتعامل مع هذا الموقف الطارئ، إلا أن العقل البشري يظل في محاولة مستميتة ليفهم ما حدث، أي لتفسيره، وفلسفته، ودراسة أبعاده الإنسانية والاجتماعية والنفسية والتاريخية والأدبية. ولنتمكن من فهم واستيعاب هذه اللحظة التاريخية الفارقة، نلجأ مرة أخرى إلى الإنسانيات، في نهضة جديدة، وإحياء لتراث مديد، ولكن في ظل تكنولوجيا وعلم حديث، لتتخذ أشكالاً وأبعاداً وأغواراً جديدة.

بدأ التوجه إلى رقمنة الإنسانيات منذ منتصف القرن العشرين، عندما ظهرت أوائل أجهزة الحاسبات الآلية الضخمة، فسعى روبرتو بوسا عام 1946 إلى وضع اللبنات الأولى لتحليل النصوص حاسوبياً. ثم ظهرت أول مجلة علمية متخصصة في مجال الإنسانيات الرقمية عام 1966، ليتبعها في سبعينيات القرن العشرين ظهور عدد من الجمعيات الخاصة برقمنة مجالات علم الآثار والأدب والدراسات اللغوية وغيرها، فسرعان ما أمسى هذا المجال الوليد مجالاً أكاديمياً خصباً وثرياً.

ومن هنا جاء تعريف الإنسانيات الرقمية بأنها مجال أكاديمي بحثي، يهدف إلى تدريس الإنسانيات ودراستها من خلال تبني أدوات التكنولوجيا الحديثة، والمناهج البحثية الجديدة، والموارد الرقمية، والتطبيقات الإلكترونية، وطرق الحفظ والاسترجاع الحاسوبية. فالإنسانيات الرقمية لم تعد تقتصر على الباحث أو الدارس الفرد، بل تعتمد على عمل جماعي يتطلب عدة مهارات من مختلف المجالات الحاسوبية والإنسانية.

ومن ثم، فقد تغيرت العلاقة بين البحث الإنساني والمتلقي له، فبعد أن كانت مثل هذه الأبحاث لا تخرج عن نطاق أكاديمي ضيق، أصبحت الإنسانيات اليوم في متناول يد الفرد العادي، بل أصبح مشاركاً ومساهماً فيها. وأعادت البشرية صياغة أساليب انتاج ونشر واستهلاك "المنتج الإنساني"، سواء كان كتاباً أو بحثاً أو فناً أو أدباً أو مشروعاً بحثياً.

تبدلت طبيعة الإنسانيات من كونها مجرد "نصية"، فأصبحت اليوم متعددة الوسائط ومرئية. فمن منا لم يستخدم هاتفه المحمول أو لوح محمول للاطلاع على جريدة أو كتاب، ليجد أنه أصبح يتكون من أكثر من مجرد الكلمات؟ بل أن امكانية حمل عدد هائل من "النصوص"، التي كانت تحتاج في الماضي إلى غرفة كاملة من المكتبات والأرفف في اليد، يعد من أعظم اختراعات البشرية، أتاحت للإنسانيات بالخروج من برجها العاجي لتلتقي برجل الشارع.

ومن هنا تتضح لنا "ديمقراطية" العلوم الإنسانية وخاصة الرقمية منها، فالإنسانيات ومجالاتها المتعددة هي ما يحمي التراث الإنساني، والتعدد الثقافي واللغوي، وتحفظ الذاكرة البشرية من الاندثار، ولذلك تعمل على ارساء الهوية، كما أن الإنسانيات تلعب أيضاً دوراً هائلاً في تعزيز الذكاء العاطفي والاجتماعي للإنسان، ومن ثم ترسخ لقيمة من أهم القيم الإنسانية، ألا وهي القدرة على التعاطف مع الآخر.

إلا أن هذا التسارع الرهيب في التطور التكنولوجي والرقمي، والتهافت مؤخراً على الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المتعددة، أثار حفيظة الكثير من الإنسانيين أنفسهم، فتساءل الكثير عن الأوجه الفلسفية والأخلاقية والإنسانية التي يتهددها هذا التطور الهائل، وبدأت الدعوات تتزايد نحو ضرورة "أنسنة التكنولوجيا" في مقابل رقمنة الإنسان والإنسانيات.

إن الرقمنة والإنسانيات الرقمية هي المستقبل، وبينما تظل الإنسانيات هي عقل الإنسان وقدرته على تفهم وتفسير كينونته وكيانه ووجوده، وكذلك كل ما يجابهه من ظواهر مختلفة، فإن الإنسانيات الرقمية لا غناء عنها في قدرتها على سبر أغوار علاقة الإنسان بعالم رقمي ما بعد جائحي. لا شك أن للعلوم والطب والتكنولوجية أهمية جمة في حياتنا وتقدمها وتطورها، إلا أن بقاء الجنس البشري على وجه الأرض، والحفاظ على إنسانيته وأنسنة أدواته هذه يتطلب اهتماماً حقيقياً بالعلوم الإنسانية التي تعيد مسار البشرية إلى مسار يتركز حول الإنسان، لا الآلة.